السبت، ٨ أغسطس ٢٠٠٩

د. عواطف عبد الرحمن تكتب: التطبيع بين مصر وإسرائيل.. الحصاد المر والتحديات

المصرى اليوم


التطبيع وتداعياته المصرية والعربية:

يُعد مفهوم التطبيع الذى فرضته إسرائيل فى إطار عملية التسوية أحد مبتكرات الفكر الإسرائيلى، فطبقًا لميثاق الأمم المتحدة الذى استند تأسيس قيام إسرائيل إلى قرار منه، تقوم علاقات السلام بين الدول على عدم استخدام القوة أو التهديد لها واحترام استقلالها السياسى، وفيما عدا ذلك فإن تحديد طبيعة العلاقات ومستواها يظل من الأمور السيادية للدولة وهى التى تحددها، ويعترف منظرو التطبيع من الإسرائيليين بحقيقة أن مصطلح التطبيع مصطلح غير عادى، ولا يرد فى معاهدات السلام التى تنظم العلاقات بين الدول عادة، وأنه نشأ من طبيعة عدم التناسق فى الصراع العربى الإسرائيلى، وتكمن الصعوبات فى عدم التناسق، الأمر الذى أدى إلى ترجمته فى مفهوم التطبيع.

إذن التطبيع هو وسيلة لإلزام العرب بتبادل سلمى نشط فى بعض المجالات من أجل أن يبرهنوا للإسرائيليين على الجدية فى تحول قلوبهم وإرادتهم إلى قبولهم كجيران وككيان شرعى مساو لهم فى الشرق الأوسط، ولعل هذا المفهوم الإسرائيلى للتطبيع يفسر ما تضمنته اتفاقيات السلام من نصوص خاصة بإرساء وتفعيل العلاقات الاقتصادية والثقافية بينها وبين الدول العربية الموقعة على هذه الاتفاقيات. وعلى المستوى التطبيقى بالنسبة لمصر يرى الإسرائيليون أن الهدف الأساسى للتطبيع هو فرض الرؤية الصهيونية وتحقيق الأطماع الإسرائيلية فى إخضاع المجتمع المصرى وتطويعه لقبول السلام الإسرائيلى٠

ولكن تساور الإسرائيليين الشكوك فى مدى استعداد المصريين لتفعيل هذا المفهوم أو الاستفادة منه، وإذا كانت مصر قد حققت بعض المكاسب من عملية السلام مع إسرائيل، التى تتمثل فى السياحة واسترداد مناطق النفط وتدفق المعونة الأمريكية، فإن المشكلة بالنسبة للشعب المصرى ظلت مستعصية لأسباب عديدة تتعلق بطبيعة الكيان الصهيونى باعتباره كيانًا مغتصباً للوطن الفلسطينى، ويمثل تهديدًا للأمن القومى المصرى فضلاً عن التاريخ الدموى لهذا الكيان المتمثل فى المذابح وحرب الإبادة والإصرار على اقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه عبر ستين عامًا، فضلاً عن ١٥٠ ألف شهيد مصرى ماتوا دفاعًا عن السيادة المصرية وحقوق الشعب الفلسطينى فى الحروب التى شنتها إسرائيل فى ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧.

ويضاف إلى ذلك عامل آخر لا يقل أهمية، يتمثل فى قناعة الشعب المصرى بأن الكيان الصهيونى قد تأسس أصلاً على أيدى الاستعمار الأوروبى والأمريكى لحل المشكلة اليهودية فى أوروبا على حساب الشعب الفلسطينى، ثم أصبح ركيزة أساسية للنفوذ الاستعمارى الغربى «الأمريكى تحديدًا» فى قلب الوطن العربى، لكل هذه الأسباب وغيرها أصبح عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيونى جزءًا من عقيدة الشعب المصرى.

وقد اختلف مفهوم إسرائيل للتطبيع من بلد عربى إلى آخر طبقًا لأهدافها من كل دولة، مثلاً بالنسبة للفلسطينيين لم يكن التطبيع السياسى ثمنًا للسلام أو حافزًا عليه بل كان يعنى فى المقام الأول طبيعة التسوية، والنمط الذى سوف تنتقل إليه العلاقات بين الطرفين فى ظل التسوية السياسية.

ورغم جهود منظرى التطبيع فى إسرائيل لإضفاء طابع المشروعية والمنطق على خطاب التطبيع استنادًا إلى بعض النماذج الدولية فإنه يظل فى جوهره دعوة صريحة للاستسلام لغطرسة القوة الإسرائيلية، كما أنه يتناقض مع السياسات الإسرائيلية التى شككت فى وجود شعب فلسطينى من أساسه وفى تبعية الجولان لسوريا وكذلك فى تبعية سيناء لمصر، التى لا يزال بعض القادة الإسرائيليين يرون فيها حلاً لمشكلة الدولة الفلسطينية، وفى أعقاب توقيع اتفاقيات التسوية شهدت المنطقة العربية ثلاث موجات تطبيعية كبرى بدأت الأولى فى أعقاب زيارة السادات لإسرائيل، وانكفأت عمليًا تحت ضغط المعارضة الشعبية واغتيال السادات، وتحولت فى ظل حكم مبارك إلى ما يسمى السلام البارد، حتى عام ٢٠٠٤ عندما شهدت تحولاً جوهريًا لا يتسق مع المسار السياسى للعلاقات المصرية الإسرائيلية.

وانطلقت الموجة الثانية للتطبيع فى أعقاب مؤتمر مدريد وبدء المفاوضات الثنائية ومتعددة الأطراف، وتحولت المنطقة العربية أثناء هذه الفترة إلى معمل تجريب نشط ومكثف من أجل تسويق التطبيع وتفعيل أهدافه، ولكن سرعان ما اعترى هذه الموجة هبوط مع وصول نتنياهو إلى السلطة فى إسرائيل عندما تبدد كثير من الأوهام بإعلان نتنياهو معادلة «السلام مقابل السلام» بدلاً من صيغة «الأرض مقابل السلام»، ثم تحولت الموجة الثالثة فى سياق مختلف عن الموجتين السابقتين، اللتين ارتبطتا بمشروعات التسوية، إذ اقترنت هذه الموجة بأحداث الحادى عشر من سبتمبر وسط حمامات الدم والإبادة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى.

وقد استهلتها السعودية بمبادرة استهدفت تبرئة نفسها أمام الإدارة الأمريكية بعد اتهام مواطنين سعوديين بارتكاب أحداث نيويورك الدامية، لكن سرعان ما تم تعريبها، وأضافت التطبيع كأساس لأى تسوية ثم تبعتها مبادرة أردنية اقترحت «التطبيع قبل التوقيع»، تكريسًا للمفهوم الصهيونى الأمريكى الذى يدعو إلى الفصل بين السلام والتطبيع.

لقد استكمل المشهد الانهزامى للنظم العربية الحاكمة خلال العدوان الإسرائيلى على جنوب لبنان عام ٢٠٠٦، عندما قدمت كل من مصر والأردن والسعودية غطاء سياسيًا للعدوان الإسرائيلى، وازداد المشهد قتامة بانضمام معظم الأنظمة العربية إلى حصار التجويع الذى فرضته إسرائيل وأمريكا وأوروبا على الشعب الفلسطينى لإخضاع حماس لشروط إسرائيل أو إسقاطها، الأمر الذى أدى إلى وضع الشعب الفلسطينى على حافة المجاعة واشتعال الاقتتال الداخلى بين السلطة الفلسطينية وحماس فى ذات الوقت.

لقد انطوى التطبيع على ثلاثة مستويات شملت التطبيع السياسى والتطبيع الاقتصادى والتطبيع الثقافى، وكان لكل منها آلياته ومراحل تنفيذه. ولقد تدرج التطبيع بادئًا بالمستوى السياسى مع دول المواجهة: مصر وفلسطين والأردن، ثم المشروع الإسرائيلى للتطبيع مع سوريا من واقع ما عبرت عنه المفاوضات إلى التطبيع مع العراق فى ظل الاحتلال الأمريكى ثم الدول العربية، التى أقامت علاقات رسمية مع إسرائيل وشملت المغرب وتونس وموريتانيا وعمان وقطر.

ويلاحظ أن الدول العربية التسع التى شاركت فى التطبيع الرسمى اقترن حوالى نصفها بحالة الاحتلال، وعلقت سوريا إتمام التطبيع على الوصول إلى اتفاق سلام، ولم تجرؤ الحكومات التى شكلت فى العراق فى ظل الاحتلال على إقامة تمثيل دبلوماسى مع إسرائيل بسبب المقاومة.

وقد اقتصرت الدول التى طبعت علاقتها مع إسرائيل باختيارها على إقامة مكاتب اتصال ثم أغلقتها من الناحية الرسمية فى إطار قرارات الجامعة العربية التى ربطت بين التطبيع وتقدم التسوية السياسية، ما عدا موريتانيا التى أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل منذ عام ١٩٩٩. وانتكس التطبيع السياسى تمامًا فى لبنان عقب إسقاط اتفاق مايو ١٩٨٣ ثم نجاح المقاومة اللبنانية بزعامة حزب الله فى طرد الاحتلال الإسرائيلى عام ٢٠٠٠ دون اتفاق سلام أو تطبيع، وجزر القمر التى قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.

التطبيع بين مصر وإسرائيل:

اتخذت العلاقات السياسية بين مصر وإسرائيل مسارًا متعرجًا اختلف فى عصر السادات عن فترة حكم مبارك، فقد رفع السادات شعار «خطوة من جانب إسرائيل بخطوتين من جانب مصر». ولذلك شهد التطبيع فى عهد السادات زخمًا وتعجلاً غير متوقع وحاولت إسرائيل اختصار الآجال المحددة للتطبيع وفق المعاهدة التى حددت ستة أشهر بعد بدء المفاوضات، ولكن وقعت مصر مع إسرائيل ٩ اتفاقيات للتطبيع قبل انتهاء هذه المدة، واستجابت للمطالب الإسرائيلية بشأن تعديل مناهج التعليم وإمكانية تزويد إسرائيل بمياه النيل.

وقد تجسدت علاقات التطبيع فى هذه المرحلة فى لقاءات القمة بين السادات ورئيس وزراء إسرائيل، التى بلغت عشرة لقاءات انعكست على الحزب الحاكم والمؤسسات الحكومية والمجالس النيابية، واتخذت شكل حوارات مع نظرائهم فى إسرائيل. ولكن اتسم التطبيع السياسى فى عهد مبارك بمسار متعرج، وقد استهله الرئيس مبارك بالتحفظ على دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلى لزيارة القدس لاستئناف مفاوضات الحكم الذاتى واشترط إجراء المفاوضات خارج القدس المحتلة.

وقد ساد التعامل بين مصر وإسرائيل نمط العلاقات التى وصفت بـ(السلام البارد) حتى عام ١٩٨٢، وكان قد تم استدعاء السفير المصرى من إسرائيل بسبب اعتداء إسرائيل على لبنان عام ١٩٨٢، ثم أعيد السفير المصرى إلى تل أبيب بعد عودة طابا لمصر.

وقد وافقت مصر على دعوة إسحق رابين لزيارة مصر لاستئناف لقاءات القمة، التى انقطعت خلال ست سنوات وأعقب ذلك تبادل مكثف لزيارات مسؤولين من البلدين، وإذا كان اتفاقا أوسلو ١٩٩٣ ووادى عربة ١٩٩٤ قد أسهما فى تعزيز العلاقات السياسية بين مصر وإسرائيل فإن اعتراف بعض القادة العسكريين الإسرائيليين بارتكاب مذابح للمدنيين والأسرى المصريين ودفن بعضهم أحياء فى حربى ١٩٥٦ و١٩٦٧ والتى أثارت غضبًا هائلاً لدى الرأى العام المصرى، كل هذه الجرائم لم تؤثر فى مسار العلاقات السياسية بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، فقد رفضت إسرائيل طلب مصر بتشكيل لجنة تحقيق ولم تهتم الحكومة المصرية باتخاذ أى إجراء ضد مرتكبى هذه الجرائم.

هذا وشهدت العلاقات السياسية بين مصر وإسرائيل مزيدًا من التوتر منذ اندلاع الانتفاضة (سبتمبر ٢٠٠٠) ووصول شارون للسلطة وتوسعه فى إجراءات القمع تجاه الشعب الفلسطينى. وقد استجابت الحكومة المصرية لضغوط الرأى العام بسحب سفيرها لدى إسرائيل فى نوفمبر ٢٠٠٠ للمرة الثانية ولكنها رفضت المطالب الشعبية بقطع العلاقات مع إسرائيل أو طرد السفير الإسرائيلى من القاهرة.

ثم صعدت احتجاجا مرة أخرى إثر إعادة احتلال المدن الفلسطينية فى مارس ٢٠٠٢ وقرر مجلس الوزراء حينئذ وقف جميع الاتصالات بين الحكومة المصرية والحكومة الإسرائيلية عدا القنوات الدبلوماسية التى تخدم القضية الفلسطينية. كما أعلن وزير الزراعة يوسف والى وقف كل أشكال التعاون العلمى والإرشادى فى مجال الزراعة بين مصر وإسرائيل، وتراجعت مختلف أشكال العلاقات الرسمية وكذلك أنماط التطبيع الثقافى والاجتماعى، وتبادل الإعلام المصرى والإسرائيلى حملات إعلامية متصاعدة.

ولكن اعتبارًا من ٢٠٠٤ شهد التطبيع من الجانبين تحولاً جوهريًا لا يتفق مع المسار السياسى للعلاقات بينهما. إذ وقعت مصر اتفاق المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) واتفاق تزويد إسرائيل بالغاز الطبيعى، اللذين ظلت ترفضهما منذ عام ١٩٩٦، وقد حدث ذلك رغم استمرار اعتداءات إسرائيل على الشعبين الفلسطينى واللبنانى.

وإذا كان العقد الأول من التطبيع الاقتصادى بين مصر وإسرائيل لم يحقق نتائج ملموسة إلا فى مجالين هما السياحة والنفط فإن هذا التحول الجوهرى كانت له تداعياته السلبية على الشعب المصرى والعالم العربى، وقد وصف روبرت زوليك، ممثل الولايات المتحدة، اتفاق الكويز بأنه (أهم اتفاق اقتصادى بين مصر وإسرائيل منذ اتفاقية كامب ديفيد). وقد تم هذا الاتفاق دون مناقشته فى مجلس الشعب بزعم أنه مجرد بروتوكول ملحق باتفاقية السلام ١٩٧٩.

أما التوقيع على اتفاق تصدير الغاز المصرى الطبيعى لإسرائيل عبر خط أنابيب فهو مطلب إسرائيلى ظل معلقًا منذ وقت طويل، وتم تعليق المفاوضات بشأنه فى فبراير ١٩٩٧ وقد وقعت مذكرة التفاهم فى يوليو ٢٠٠٥، وأعلن أنها سوف تتم من خلال تعاقدات بين شركات مصرية وإسرائيلية.

وكعادتها فى التعتيم على كل ما يتعلق بالتطبيع لم تعلن الحكومة المصرية تفاصيل اتفاق الغاز. وقد أشار فهمى هويدى فى مقال بعنوان (حفاوة فى غير محلها) نشر بـ«الأهرام» فى ٢٩ مايو ٢٠٠٧ إلى شراء إسرائيل بنك الإسكندرية الذى يعد واحدًا من أربعة بنوك وطنية كبرى تمثل عُهَدْ الجهاز المصرفى الوطنى فى مصر، ولم يرد تكذيب من جانب الحكومة المصرية ولكن رئيس البنك المركزى المصرى شرح مبررات بيع بنك الإسكندرية لبنك سان باولو الإيطالى، وهذا لا يعنى عدم شراء إسرائيل للبنك عبر طرف ثالث، خصوصًا أن إسرائيل لا تألو جهدًا فى محاولة اختراق الجهاز المصرفى المصرى سواء بتأسيس بنك فى مصر أو شراء حصة أحد البنوك الأجنبية.

وتأتى واقعة تورط مستثمر مصرى مزدوج الجنسية فى مشاركة مستثمر إسرائيلى فى مشروع سياحى ضخم فى سيناء كى تضيف بُعدًا خطيرًا فى مجال التطبيع الاقتصادى بين مصر وإسرائيل، إذ تم السماح باختراق قرار حظر الاستثمار الإسرائيلى فى سيناء، التى ظلت حتى فى ظل حكم السادات، خطًا أحمر لاعتبارات الأمن القومى المصرى. وقد كشف الكاتب فاروق جويدة تفاصيل هذا المشروع فى مقاله الأسبوعى (خطايا الحكومة بأثر رجعى) الذى نشر بـ«الأهرام» فى أول يونيو ٢٠٠٧، وللحديث بقية عن التطبيع فى مقال آخر.

التطبيع الثقافى:

وإذا كانت اتفاقيات التسوية بين إسرائيل ومصر وفلسطين والأردن تستهدف الاعتراف بإسرائيل ككيان شرعى وقبولها والتفاعل معها دون أن يقابل ذلك أدنى تغيير فى ادعاءاتها حول حقوقها التاريخية فى فلسطين، ودون التنازل عن طبيعتها العدوانية العنصرية المتغطرسة، لذلك شغلت الساحة الثقافية والتطبيع الثقافى موقع القلب فى عملية السلام وأولتها إسرائيل اهتمامًا يفوق نزع السلاح والمناطق العازلة وغيرها من الضمانات التى تكفلها اتفاقيات التسوية، بل اعتبرتها إسرائيل شرطًا جوهريًا لضمان تحقيق هذه الاتفاقيات.

ولذلك سعت إسرائيل منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر ١٩٧٩ إلى فرض إقامة علاقات ثقافية، والنص عليها فى الاتفاقية إدراكًا منها لأهمية اختراق منظومة الوعى والإدراك لدى الشعب المصرى سعيًا لاقتلاع مصادر العداء التى ترسخت فى الذهن والوجدان خلال عدة عقود من الحروب والصراعات، ولم تكتف إسرائيل بفرض إقامة علاقات ثقافية على نصوص اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية، بل نصت على وجوب عقد اتفاقية ثقافية تم توقيعها بالفعل فى مايو ١٩٩٨، وتم فى إطارها توقيع عدة بروتوكولات تنفيذية من بينها تأسيس مركز إسرائيلى أكاديمى فى القاهرة «عام ١٩٨٢» كقناة للاتصالات مع المؤسسات التربوبة والعلمية فى إسرائيل.

وقد نص اتفاق أوسلو الأول عام ١٩٩٣ على برامج للتعاون فى مجال الاتصال والإعلام كما نص الاتفاق الثانى لأوسلو «طابا ١٩٩٥» على برامج للتعاون العلمى والثقافى والاجتماعى وتشجيع الحوار ومنع التحريض والدعاية العدائية وتعهد الطرفان بأن يعمل نظامهما التعليمى على تشجيع ثقافة السلام بين إسرائيل وفلسطين، وتنص المادة الثالثة من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية على أن يتعهد الطرفان بالامتناع عن التنظيم أو التحريض على أفعال العنف الموجهة ضد الطرف الآخر، كما يتعهد بتقديم مرتكبى هذه الأفعال إلى المحاكمة وقد التزمت السلطات المصرية بمنع كل هذا بجميع الوسائل سواء التشريعات القانونية أو الإجراءات الأمنية، وتجسد ذلك فى سلسلة التشريعات التى أصدرها نظام السادات للحيلولة دون توجيه أى نقد للاتفاقية مثل تعديل قانون الأحزاب رقم ٣٦ لعام ١٩٧٩ وقانون العيب رقم ٩٥ لعام ١٩٨٠ وقانون سلطة الصحافة رقم ١٤٨ لعام ١٩٨٠، وجميع هذه القوانين تلاحق معارضى الاتفاقية المصرية الإسرائيلية بالحرمان من الحقوق السياسية والحبس والغرامات.

وعلى مدار العقود الثلاثة التى استغرقتها جهود التطبيع الثقافى يلاحظ أن التحالف الصهيونى الأمريكى قد طور من آلياته فإذا كان قد ركز فى الثمانينيات على مؤتمرات الطب النفسى من أجل إعادة تكييف طبيعة الصراع، وتجاوز الحاجز النفسى وإرساء فكرة السلام كمصدر للنفع الاقتصادى فإن حقبة التسعينيات قد شهدت المحاولات الدؤوبة لإدماج التطبيع الثقافى مع مفاهيم العولمة التى سعت لتذويب ثقافة المنطقة من خلال التركيز على فكرة الشرق أوسطية والتأكيد على تعدد الهويات والثقافات فى المنطقة والسعى لتفكيك مكونات الثقافة العربية وطمس الهوية الثقافية وينشغل هذا التحالف منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة وبعد أحداث ١١ سبتمبر بإعلاء صوت مكافحة الإرهاب ومحاولة توظيف قوانين مكافحة الإرهاب من أجل إضعاف الأصوات الداعمة للمقاومة بدءًا بتعقب المعادين للسامية من خلال استصدار تشريعات من الكونجرس، وانتهاء ببرامج الإصلاح السياسى التى أطلقتها أمريكا وفرضتها على الدول العربية من أجل تغيير نظمها الاجتماعية والثقافية والسياسية.

مقاومة التطبيع:

استقى خطاب مقاومة التطيبع عناصره من روافد عديدة عبرت عن التيارات الفكرية والاجتماعية الرافضة للتطبيع والاستسلام للعنصرية الصهيونية على الساحة العربية، وقد ضمت هذه التيارات كلاً من التيار القومى والإسلامى والليبرالى والماركسى ولذلك جاءت صياغته ذات طابع جبهوى مجسداً الطبيعة الجبهوية للحركة الشعبية المناهضة للتطبيع، وقد تطور خطاب مقاومة التطبيع على مدار العقود الثلاثة الماضية اتساقاً مع طبيعة المتغيرات التى شهدتها المنطقة العربية سواء بالنسبة للتطورات التى شهدها الصراع العربى الإسرائيلى أو مواقف النظم العربية الحاكمة أو التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافة التى فرضتها العولمة.

وقد ركز هذا الخطاب منذ بداية تشكله فى مصر على إدانة نهج التسوية الانفرادية وفتح أبواب مصر لزيارة الإسرائيليين بينما تحتل إسرائيل الأراضى المصرية والعربية ورفض انخراط مصر فى مفاوضات الحكم الذاتى للفلسطينيين وتسليم زمام التسوية للولايات المتحدة والزعم بأنها تمتلك ٩٩٪ من أوراق اللعبة.

ومع توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام ١٩٧٩ ركز خطاب مقاومة التطبيع والاستسلام على كشف أبعاد الاتفاقية وأثرها فى الإخلال بالأمن القومى والوطنى ومساسها بالكرامة الوطنية بفتح سفارة لإسرائيل فى القاهرة بينما يحتل جيشها أراضى مصرية، ومع بدء خطوات التطبيع الرسمى وتورط النظام فى ملاحقة المعارضين للتطبيع ربط الخطاب فى مواجهته الموجة الأولى للتطبيع بين الاستبداد والفساد والتطبيع وانخرطت الحركة الشعبية المناهضة للتطبيع فى مواجهة واسعة أربكت النظام فتورط فى مواجهة مضادة بدأت باعتقالات سبتمبر ١٩٨١ وشملت اعتقال حوالى ١٥٣٦ من القيادات السياسية والنقابية والثقافية والدينية وانتهت باغتيال السادات فى ٦ أكتوبر ١٩٨١.

وقد شهد خطاب مقاومة التطبيع تطوراً مهماً فى مواجهة الموجةالثانية من التطبيع خصوصاً بعد توقيع منظمة التحرير الذى كانت له تداعياته السلبية على قطاع كبير من الحركة الشعبية لمقاومة التطبيع خصوصاً هؤلاء الذين كانوا يرددون شعار «نقبل ما تقبله منظمة التحرير الفلسطينية» كذلك تأثر خطاب مقاومة التطبيع بانفراط عقد جبهة الرفض وانغماس معظم الدول العربية فى مخططات التسوية والمفاوضات المتعددة الأطراف، علاوة على الالتباسات التى تعرض لها التيار القومى عقب حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ ويضاف إلى ذلك انغماس بعض أجنحة التيار الإسلامى فى نزاعات مسلحة مع الحكومات العربية خصوصاً فى مصر والجزائر وظهور تحالف كوبنهاجن وجمعية القاهرة للسلام وتورط بعض الإعلاميين فى زيارات لإسرائيل وهرولة بعض رجال الأعمال المصريين للمشاركة فى مشروعات بيزنس مع الإسرائيليين.

وفى خضم هذه الصعوبات حققت الحركة الشعبية لمقاومة التطبيع عدة إنجازات استراتيجية لعل أبرزها عزل التطبيع عن الدائرة الشعبية ومحاصرته داخل دائرة العلاقات الحكومية الرسمية مما أضفى عليه طابع «السلام البارد» ويتجلى الإنجاز الثانى فى جعل عملية التطبيع عملاً شائناً ومجرماً يستلزم الإخفاء وعدم المجاهرة به الأمر الذى ألزم معظم العناصر التى أقدمت على التطبيع بالعمل على تكتمه وتبريره.

ويواجه التطبيع عدة تحديات فى ظل العولمة وانخراط فريق من رجال الأعمال والمستثمرين فى مشروعات الشراكة الصهيونية الأمريكية وفى ظل السياسات الاقتصادية العولمية التى انتهجتها الحكومة المصرية والتى أدت إلى اتساع مساحة البطالة والإفقار بين جموع الطبقات الشعبية لجأت مجموعات شبابية إلى السفر للعمل فى إسرائيل وكان لذلك تداعياته السلبية اجتماعياً وثقافياً.

ولكن يظل التحدى الأهم الذى تواجهه الحركة الشعبية لمقاومة التطبيع هو فى ضرورة تطوير قدراتها التنظيمية وتعزيز قنوات التواصل والتنسيق وتحسين تدفق المعلومات بينها وتطوير الاستفادة من المستحدثات التكنولوجية فى مجال الاتصال والإعلام والمعلومات خصوصاً أنها تملك وضوح الرؤية وتتوافر لها الآليات ولا تنقصها الخبرات الحركية والثقافية ولا يعوزها الاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات.

ليست هناك تعليقات: