الاثنين، ١٧ مارس ٢٠٠٨

«غازك» يا وطن

المصرى اليوم

بقلم أحمد الصاوي

ما حدث في موسكو مساء الجمعة الماضي ليس شأناً روسياً أو أوكرانياً علي الإطلاق، وليس بعيداً عنا، والمؤكد أنه نافذ في جلودنا، ويتحسس «بطحة كبري» علي رأس حكومتنا «النظيفة».

ما حدث هو توقيع روسيا وأوكرانيا اتفاقاً جديداً لتصدير الغاز الروسي إلي أوكرانيا، يمكن أن تعتبره بلاغاً للنائب العام، تقدمه الشركة الروسية العملاقة «غازبروم» نيابة عن الشعب المصري ـ ودون أن تقصد بالطبع ـ تتهم فيه من يملكون قرار الغاز المصري بإهدار ثروات طبيعية، والإضرار بمصالح الشعب العليا علي أقل تقدير.

اقرأ ما أوردته وكالات الأنباء عن الاتفاق الروسي الأوكراني لتكتشف أن كل سطر فيه بينما يمثل نصرا روسياً في التفاوض والحفاظ علي المصالح العليا، يمثل في الوقت نفسه وبالتوازي فضحاً لأداء الحكومة في مصر في نفس الملف، وتأكيداً علي أن اتفاقات تصدير الغاز المصري إلي الخارج، وسياسات تسعيره فيها «ألف إن» وألف علامة استفهام، وملايين الفئران التي تعبث في الصدور.

تبيع روسيا الغاز لأوكرانيا وسائر البلدان الأوروبية بـ ٩ دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وتبيع مصر نفس المليون وحده بـ ٥.١ دولار فقط لكل من إسرائيل والأردن، و٢٥.٢ دولار لإسبانيا ــ بعد تعديل الاتفاق ـ وتبيعه لمصانع السماد في المناطق الحرة بـ ٢٥.١ لكل مليون وحده حرارية أيضاً.

تبرم روسيا اتفاقات مع زبائنها لا تتعدي العام ـ الاتفاق الأخير مع أوكرانيا مدته تسعة أشهر لا غير ـ كما تضع الشروط القانونية التي تمكنها من مجاراة ارتفاع الأسعار دون الدخول في دوامة المفاوضات من جديد ـ أسعار الغاز الروسي في أوروبا من المتوقع ارتفاعها إلي ١١ دولاراً خلال العام الجاري ـ لهذا تشترط «غازبروم» الروسية مراعاة فروق الأسعار في الاتفاقات التي توقعها.

وفي مصر يبرمون عقود تصدير الغاز علي طريقة «الإيجار القديم»، فتفاجأ بأن هذه العقود تمتد ٢٠ أو ٢٥ عاماً، وتصير ملزمة «لأجيال ورا أجيال» ستجد نفسها بعد عشر سنوات تمتلك عقاراً كبيراً وشاهقاً يساوي ملايين الجنيهات، لكن إيراده لا يتعدي ٤٠ جنيهاً، ولا يكفي أجرة البواب.

رئيس شركة «غازبروم» الروسية ألكس ميلير قال خلال لقائه الرئيس الروسي بوتين عقب توقيع الاتفاق، إن الشركة تخطط لرفع سعر الغاز في أوروبا ـ لاحظ كلمة تخطط ـ وهو ما يعني أن الشركة العملاقة ـ التي تقطر خلفها اقتصاد دولة عظمي، وتمارس دوراً طاغياً يستعيد لروسيا تدريجياً مكانتها الاستراتيجية والسياسية في أوروبا، ووضعها العالمي المتقدم ـ تعرف تماماً أنها صاحبة القرار الأول والأخير فيما يخص تسعير الغاز، وتدرك أنه قرار استراتيجي تحركه مصالح قومية عليا، قداستها أقوي من الهوي والفساد،

ولذلك يستمر ميلير في تقديم الدروس لـ «صغار المفاوضين والمخططين» في مصر ويقول: إن شركته تري أن ديناميكية ارتفاع الطلب علي الغاز في السوق المحلية أعلي منها في السوق الخارجية، لهذا فهي تعطي الأولوية للسوق الداخلية، علي أن يكون سعر الغاز للمستهلك الروسي أقل بحوالي ٤٠% من السعر العالمي «حتي بعد التحول إلي آليات السوق في تحديد سعر الغاز داخل روسيا»، وضع عدة خطوط تحت الجملة الأخيرة.

لتعرف تماماً قيمة الفقرة السابقة يمكن أن تعود إلي مقال الزميل مجدي الجلاد «لإسرائيل.. بسعر التراب» الذي نشره علي الصفحة الأخيرة من «المصري اليوم» في الثالث من مارس الجاري، والذي فتح به ملفاً شديد الخطورة بمعلومات واضحة وصادمة في الوقت نفسه تقول: إن العقد المصري ـ الإسرائيلي لتصدير الغاز مدته ٢٠ عاماً كاملة، بسعر ١.٥ دولار للمليون وحدة حرارية، بينما يتكلف الإنتاج في مصر ٢.٦٥ دولار للمليون وحدة حرارية، وهو السعر الذي حددته الحكومة لبيع الغاز للمصانع «المصرية» كثيفة الاستخدام للطاقة، خلال السنوات الثلاث المقبلة.. أي أن حكومتنا حرمت المصانع المصرية، التي تنتج، وتستوعب أيادي عاملة، وتصدر منتجاتها للخارج من الدعم ـ وهذا حق ـ بينما منحته صافياً ـ خالصاً ـ مخلصاً لإسرائيل.

واقرأ في نفس المقال أيضاً: في مصر محطات توليد كهرباء تعمل بالمازوت.. وأخري «غازية»، أي تعمل بالغاز.. ويتكلف إنتاج الكهرباء باستخدام المازوت ٧ دولارات للمليون وحدة حرارية.. بينما يتكلف إنتاج الكهرباء باستخدام الغاز ٢.٦٥ دولار للمليون وحدة حرارية.. ونظراً لنقص إنتاج الغاز المصري، اضطرت الحكومة لتشغيل محطات الكهرباء «الغازية» بالمازوت، وتحملت الموازنة العامة للدولة «أموال الشعب» فارق التكلفة الضخم ـ بين المازوت والغاز ـ ومع ذلك نصدر الغاز لإسرائيل بـ«سعر التراب»..!!

يبقي أن تسأل نفسك سؤالاً جوهرياً: لماذا هذا الفارق الشاسع بين أداء روسيا ومصر في ملف الغاز؟ ولماذا يباع الغاز الروسي بأربعة أضعاف الغاز المصري؟ ولماذا تملك الشركة الروسية حق التسعير وتربطه بالسوق، ويبقي سعر الغاز المصري ثابتاً وهزيلاً لسنوات؟ ولماذا تعطي روسيا أولوية لمشروعاتها وتتعامل مع ثروتها من الغاز بمنطق «اللي تعوزه روسيا يحرم علي أوروبا» بينما تهدر مصر ثرواتها بأبخس الأسعار وتمنحها إلي الغير في «مواسير من ذهب».

هل تعتقد أن الغاز الروسي أفضل من المصري من حيث الجودة؟ أم تري أن الروس أشطر من المصريين في التسويق، أم ترجح أن قرار روسيا في يديها بينما قرار مصدري الغاز المصري في «مكان مجهول»؟، أم تظن ـ وبعض الظن إثم ـ أن المسألة ربما لها علاقة بـ «الضمير» الأخلاقي والسياسي والمهني، وبمناخ سياسي لا يقبل التفريط، في موازاة مناخ صار التفريط فيه هو الأصل، و«الأمانة» قبضاً علي الجمر!

ليست هناك تعليقات: