الاثنين، ٩ مارس ٢٠٠٩

فى دراسة للدكتور عبدالخالق فاروق تقدر السعر العادل للغاز المصري:

العربى

الفساد فى أوراق رسمية

ثارت فى الأشهر القليلة الماضية قضية "الغاز الطبيعى فى مصر"، وانتقلت الحوارات والنقاشات من أروقة وصالونات النخب السياسية والثقافية، ومن أعمدة كتاب الصحف المصرية، إلى أزقة الحوارى والمقاهى الشعبية فى كل محافظات وربوع مصر تقريبا.
وطرحت فى سياق هذا الجدل الحامى بين الجميع، تساؤلات مصيرية وشديدة الحيوية لأمن مصر ومستقبل شعبها وأجيالها القادمة، وكان من أبرز تلك التساؤلات:
ـ ما هى حقيقة وحجم تصديرنا للغاز الطبيعى المصرى إلى الكيان العنصرى فى فلسطين المحتلة؟
ـ وما هى أسعاره المباع بها؟ وما هى الأسعار العادلة لهذا الغاز؟
ـ وأخيرا ما هى السياسة الرشيدة التى ينبغى لنظام حكم وطنى يراعى المصالح العليا أن يتبناها فى مجال الطاقة عموما وفى مجال الغاز الطبيعى على وجه الخصوص، فى ضوء الاحتياطيات المؤكدة منه والمتوقعة فى المستقبل المنظور؟
والحقيقة أن موضوع الغاز الطبيعى قد تصدر المشهد العالمى كله بنفس القدر من الاهتمام الذى شغل به المصريون، خاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة وبعد القفزة الكبيرة وغير المسبوقة التى حدثت فى سعر برميل النفط الخام بعد الاحتلال الأمريكى والغربى للعراق فى مارس من عام 2003، حيث تجاوز حدود المائة والأربعين دولارا فى يونيه من عام 2008، ثم أخذ فى الانخفاض بعد ذلك حتى قارب المائة والعشرين دولارا فى الأسابيع الأولى من شهر أغسطس من نفس العام، وإن كان من غير المتوقع أن ينخفض عن معدل المائة دولار للبرميل خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وقد زاد من حدة النقاش والجدل العام فى مصر، تصريحات بعض المسئولين المصريين حول هذا الموضوع، فأصبح من الضرورى تناولنا له بالدراسة والتحليل. وسوف نتناول موضوعنا فى أربعة محاور رئيسية هي:
أولا: حقيقة وثقل وأهمية الغاز الطبيعى كمصدر للطاقة
شهدت العقود الثلاثة الماضية تزايدا ملحوظا فى حصة استخدام الغاز الطبيعى كمصدر للطاقة ـ بدلا من حرقه وتبديده ـ ففى مطلع الستينات كان نصيب الغاز الطبيعى لا يزيد على 9% من إجمالى مصادر الطاقة العالمية، ولكن بحلول عام 2005 أصبح الغاز الطبيعى يشكل حوالى 25% من تلك المصادر على المستوى العالمى، ويقدر الخبراء أن يصل نصيب الغاز الطبيعى منتصف هذا القرن (2050) حوالى ثلث المصادر العالمية للطاقة.
ويزيد من اهتمام العالم بالغاز الطبيعى عدة اعتبارات، منها وفرته فى الحقول والمكامن وبالتالى سهولة الحصول عليه، بالإضافة إلى نظافته البيئية مقارنة بغيره من المصادر الأخرى، يكفى أن نشير إلى أن غاز ثانى أكسيد الكربون المنبعث من احتراق الغاز الطبيعى يقل بحوالى 35% عن نظيره المكافئ من النفط، وحوالى 65% من الفحم وهكذا لبقية مصادر الطاقة الأخري.
ولعل هذا ما شجع الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدامه مبكرا منذ مطلع القرن العشرين، حتى إنها أقامت أكبر بنية تحتية فى العالم لتوصيل الغاز الطبيعى إلى المنشآت الصناعية وإلى المنازل، قدرت فى منتصف التسعينات من القرن الماضى بحوالى 557 ألف كيلومتر طولا.
وتزداد أهمية الغاز الطبيعى كذلك بسبب التقلبات الدورية الحادة التى تطرأ كل فترة زمنية ومع المشكلات السياسية الدولية فى أسعار النفط وعمليات المضاربة الواسعة التى تجرى عليه فى البورصات العالمية. ولعل هذا ما حدا بمجموعة من الدول المنتجة للغاز الطبيعى إلى التفكير فى صيغة تنظيمية دولية ـ على غرار منظمة الأوبك ـ للحفاظ على مصالحها وتحسين شروط تسعير هذه المادة الاستراتيجية وتصدرت روسيا وإيران وفنزويلا الجزائر هذا الجهد الدولى، فى ظل غيبة مصرية تكاد تكون كاملة.
ثانيا: منطق فاسد وممارسات مشبوهة
فى تصريحات غريبة ومفاجئة لوزير البترول المصرى "المهندس سامح فهمي" ونشرته بجريدة المصرى اليوم بتاريخ (30/6/2008) أشار الوزير إلى أن أسعار تصدير الغاز الطبيعى المصرى محكومة بعنصرين:
ـ الأول: تكلفة الاستخراج.
ـ الثاني: السعر المحلي.
والحقيقة أن هذه التصريحات ليست فقط مجافية للمنطق السليم، لكنها محملة بمعان فاسدة وعقل استعمارى تقليدى وليس وزيرا مؤتمنا على ثروات مصر من النفط والغاز؟
فشركات النفط العالمية الكبرى (أو ما كان يطلق عليها الشقيقات السبع) كانت تدير الثروة النفطية للبلدان المنتجة ـ العربية وغير العربية ـ منذ مطلع القرن العشرين بنفس هذا المنطق، حيث كانت تكلفة الاستخراج متدنية تتراوح بين 28 سنتا فى البلدان العربية وحوالى 67 سنتا فى بلدان أخرى، ومن ثم فقد كانت تمنح مشايخ الخليج وحكومة إيران أقل من 1.5 دولار للبرميل، فى حين كانت الشركات تحقق أكثر من 20 دولارا فى صورة أرباح وكذلك الحكومات الغربية تحقق ضرائب على مشتقات النفط تزيد فى المتوسط على 30 دولارا فى البرميل الواحد..!!
هذا المنطق علاوة على فساده، فهو يحمل مضامين خطيرة لرجل أسندت إليه مسئولية وأمانة إدارة هذا القطاع الحيوى من ثروة البلاد من النفط والغاز، ولعل مناط فساد هذا المنطق ثلاثة:
ـ الأول: أن سعر مصادر الطاقة الأخرى مثل النفط أو الفحم أو الطاقة الحرارية أو غيرها فى السوق العالمية لا تتحدد بمؤشر تكلفة الاستخراج، وإنما بأحوال العرض والطلب ونقطة التوازن بينهما، فهل يمكن القول إن تكلفة استخراج برميل النفط السعودى أو الكويتى أو غيرهما من الضخامة بحيث يرجع إليه ارتفاع سعر برميل النفط فى السوق الدولية حاليا إلى أكثر من مائة دولار؟
ـ الثاني: أن عنصر الاحتياطيات المؤكدة أو المتوقعة، وحق الأجيال القادمة تدخل عنصرا أساسيا فى التسعير عبر وسيلتين، إما التسعير المباشر من خلال الصفقات أو المزايدات التى تقوم بها الدول المنتجة ذاتها، أو من خلال التحكم فى كميات المعروض فى السوق العالمية سواء من النفط أو الغاز.
ـ الثالث: إن عامل المضاربة المنتشر فى الأسواق العالمية بعد حرمان دول منظمة (الأوبك) والمنتجين عموما منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضى من تحديد سعر برميل النفط بزعم مخالفة ذلك لمبدأ حرية التجارة، كان يدفع لصالح شركات المضاربة التى يسيطر عليها ويديرها فعليا كبار الرأسماليين والشركات الأمريكية والأوروبية، يكفى أن نشير إلى أن هذه الشركات وبورصات النفط قد زاد نصيبها فى تسويق النفط العالمى من 8% عام 1986 إلى 60% عام 2007، كما أن عدد العقود المستقبلية المتداولة للنفط فى بورصات البترول قد زادت بدورها من 7.3 ألف عقد عام 1982 إلى 467 ألف عقد فى منتصف عام 2002.
وبالتالى فإن حديث المهندس (سامح فهمي)، إما أنه ينم عن جهل الرجل بأحوال ومقتضيات سوق الطاقة العالمى ـ وهو ما أستبعده أنا شخصيا ـ أو أنه يكشف عن أهواء وأغراض ضارة بالمصلحة العليا لمصر وفساد مستشر فى إدارة هذه الأصول الاستراتيجية التى توشك على النفاد.
ثالثا: إذن كيف يتحدد السعر العادل للغاز الطبيعى المصري؟
هناك أكثر من عشرة عوامل يتحدد فى ضوئها سعر الغاز الطبيعى سواء فى مصر أو فى غيرها من الدول، ويجرى على أساسها المعادلات الحسابية، وهذه العوامل هي:
1 ـ تكاليف الاستخراج، ومنها عمليات البحث والتنقيب والنقل والتأمين وغيرها.
2 ـ مقدار المتاح منه كاحتياطيات مؤكدة لدى الدولة المنتجة وليس التوقعات والتقديرات المنفلتة.
3 ـ مقدار وأهمية هذه المادة فى الاقتصاديات المحلية والعالمية.
4 ـ طبيعة الفرص البديلة للاستخدام ونمط الأولويات المحددة من جانب الدولة والقائمين عليها.
5 ـ شكل وهيكل السوق الدولية للطاقة عموما وللغاز الطبيعى على وجه الخصوص، وأسعار البدائل المتاحة.
6 ـ مدى الخطط الاقتصادية التنموية داخل الدولة المنتجة ومدى رغبتها فى استخدامه كمصدر للتوسع الصناعى أو الخدمات المنزلية أو غيرهما.
7 ـ وضع وهيكل سوق النفط العالمى من حيث أسعاره وهيكل الطلب والعرض القائم فى الحاضر وفى المستقبل المتوسط والطويل.
8 ـ ضرورة مراعاة المتطلبات الحاضرة واحتياجات الأجيال القادمة، فلا ينبغى أن تترك البلاد خاوية وخربة من مصادر الثروات الطبيعية والطاقة فى المستقبل.
9 ـ مدى نقاء الغاز الطبيعى المستخرج، حيث يتباين السعر وفقا لاختلاف درجة نقاء الغاز الطبيعي.
10 ـ مدى وجود تكتلات للدول المنتجة للغاز من عدمه، حيث يؤثر هذا العنصر فى سيادة حالة من الفوضى والغموض فى صفقات بيع الغاز الطبيعى بين الأطراف المختلفة فى السوق الدولية حاليا.
إذن وكما هو واضح فإن هذه النظرة السطحية المخلة التى طرح بها وزير البترول المصرى الموضوع تعكس ليس جهلا بحقائق وقيمة هذه المادة الحيوية فحسب، وإنما تعكس المستوى المتدنى لمدركات صانع القرار الاقتصادى والسياسى فى مصر لحقائق الأسواق الدولية ومقتضيات الحفاظ على الأصول والموارد الحيوية.
نعود الآن إلى سؤالنا المحوري.. كيف نحدد السعر العادل للغاز الطبيعى المصري؟
حتى نقترب ببساطة من الموضوع ويسهل على القارئ غير المتخصص فهم أبعاده نشير إلى العناصر والمكونات التالية:
1 ـ أول هذه العناصر هو طبيعة ومستوى أسعار برميل النفط الخام فى المتوسط بالأسواق الدولية ولفترات متوسطة الأجل، فكما نعلم فإن برميل النفط الخام ينتج ما بين 5.4 إلى 5.8 مليون وحدة حرارية بريطانية (BTU) وهى وحدة القياس المعتمدة دوليا، ويرجع سبب التباين إلى اختلاف نوع الزيت (ثقيل ـ خفيف.. الخ).
2 ـ فإذا كان سعر برميل النفط فى السوق الدولية يعادل 30 دولارا، فإن المليون وحدة حرارية بريطانية تعادل 5.55 إلى 5.17 دولار فى المتوسط، محملا بتكاليف النقل والتأمين، وهو ما كان سائدا فعلا فى الأسواق الدولية قبل الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 والتى شهدت بعدها أسواق الطاقة عموما والنفط خصوصا قفزة هائلة لم تشهدها من قبل:
أسعار الغاز الطبيعى فى أهم أسواقه مقارنة بأسعار الزيت 1985 ـ 2001
(الوحدة = دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية BTU)
السنة
(*) لا يوجد تفسير لهذه القفزة مع اختفاء عبارة (عند رأس البئر) وكذلك اختفاء سعر الواردات اعتبارا من عام 1997 ويرجح أن يكون موقع التسعير قد تغير إلى حدود المدينة، بمعنى أن السعر صار يتضمن تكلفة الضخ بالأنابيب إلى مشارف المناطق الاستهلاكية.
3 ـ ومع ارتفاع سعر برميل النفط من أقل من 30 دولارا مطلع عام 2003 إلى ما يجاوز 145 دولارا للبرميل فى يونيه من عام 2008، ثم انخفاضه إلى حدود أقل من 120 دولارا للبرميل خلال أشهر صيف ذلك العام، فإن متوسط سعر المليون وحدة حرارية من الغاز (وتساوى 28.4 متر مكعب غاز أو ألف قدم مكعب) سوف يتراوح طوال السنوات الثلاث الماضية والسنوات الثلاث القادمة بين 16 إلى 20 دولارا.
4 ـ بيد أن عمليات بيع وشراء النفط الخام تكاد تجرى يوميا، والعقود الآجلة أو المستقبلية تجرى عبر عمليات المضاربة المنتشرة فى الأسواق الدولية، وهى بالتالى تختلف إلى حد بعيد عن عقود بيع وشراء الغاز الطبيعى التى تتحكم فيها الحكومات المنتجة من ناحية، والتى تتطلب عقد اتفاقيات متوسطة وطويلة الأجل، بما لا يسقط حق الدولة المنتجة عن شرط "مراجعة الأسعار كل فترة زمنية" غالبا سوف تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات كما جرى فى حالة تعاقدات روسيا الاتحادية مع دول الاتحاد الأوروبى أو أوكرانيا. وفى هذا الصدد قد يكون من المفيد عرض التجربة الروسية مع أوكرانيا التى كانت لوقت قريب جزءا من الاتحاد السوفيتى السابق، ومازال الأسطول الروسى يتمركز فى شواطئ أوكرانيا، لقد سجل سعر بيع الغاز الروسى إلى أوكرانيا 180 دولارا مقابل كل ألف متر مكعب من الغاز، وبحساب بسيط فإن سعر بيع المليون وحدة حرارية بريطانية (B.T.U) التى تعد وحدة الحساب الأساسية يعادل 5.1 دولار. فهل يجوز أن يكون النظام المصرى أكثر كرما على إسرائيل العنصرية من روسيا على أوكرانيا..!!
5 ـ إذن السعر العادل للمليون وحدة حرارية من الغاز المصرى الذى جرى التعاقد به منذ منتصف التسعينات أو مطلع الألفية الثالثة مع إسبانيا أو النمسا أو الكيان العنصرى فى فلسطين المحتلة لم يكن متوافقا مع التعاقدات التى كانت تجرى أيضا فى السوق الدولية خلال نفس الفترة، كما يظهرها الجدول السابق، حيث كان يتراوح بين 4 دولارات إلى 6 دولارات للمليون وحدة حرارية وبالتالى فإن ما جرى فى الحالة المصرية يعد انتهاكا خطيرا للمصالح الاقتصادية والوطنية المصرية تستوجب المساءلة والعزل من الوظيفة أيا كان شاغلها.
6 ـ وإذا قدرنا ـ مع الغالب من رأى الخبراء فى مجال الطاقة واقتصادياته ـ بأن سعر برميل النفط فى السوق الدولية سوف يتوازن غالبا عند سبعين دولارا لسنوات قد تطول بسبب من اعتبارات جيو-سياسية وجيو-استراتيجية، فإن الغاز المصرى ينبغى ألا يقل سعره خلال السنوات الخمس القادمة عن 15 دولارا للمليون وحدة حرارية تحت أى ظرف من الظروف مع ضرورة الاستمساك بشرط المراجعة الدورية للأسعار.

ليست هناك تعليقات: