المصرى اليوم
بقلم د.محمود خليل
مسألة ساذجة للغاية أن تظن دولة أو حكومة أن بإمكانها القضاء على فكرة محلها القلب والعقل والشعور والوجدان. ذلك ما لا تفهمه إسرائيل، والعديد من الحكومات الأخرى، فى المواجهة مع أهل غزة.
فكل ما تفعله إسرائيل هو محاولة تدمير المواقع والمنصات التى تنطلق منها صواريخ حماس، وهى تجتهد فى اصطياد كوادر وقيادات هذه الجماعة عبر طيرانها ومدفعيتها ودباباتها. وتتوقع إسرائيل أنها لو أفلحت فى تحقيق هذه الأهداف فستقضى تماماً على الخطر الذى يأتيها من القطاع، وستنهى موضوع المقاومة، وستحول جميع الفلسطينيين إلى قطط أليفة ومستأنسة! هيهات.. هيهات!. فالمسألة لا ترتبط بجماعة أو منظمة، يمكن أن تجيَّش الجيوش من أجل القضاء عليها، بل تتعلق فى الأساس بفكرة المقاومة التى تسكن صدور الكثير من الفلسطينيين وغيرهم من المواطنين العرب فى كل مكان.
لقد وقعت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل، تم بموجبها استرداد أرض سيناء، وكان من بين بنود هذه المعاهدة تطبيع العلاقات بين المصريين والإسرائيليين، لكن الواقع لم يشهد - على مدار المدة الزمنية ما بين ١٩٧٩ حتى الآن – أى نوع من التفعيل لبند التطبيع، ليس على المستويات الشعبية فقط، بل على بعض المستويات الرسمية أيضاً.
فالعديد من الجامعات المصرية يأبى بناء أى علاقات أو أى نوع من التعاون التعليمى أو البحثى مع الجامعات الإسرائيلية، وما زالت إسرائيل مستبعدة من المشاركة فى أى نشاط ثقافى على أرض مصر، والقضاء الإدارى أكد، منذ أيام قليلة، حكمه السابق بوقف تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل.
فرغم السلام الرسمى مع إسرائيل، فـإن فكرة التطبيع تمت مقاومتها شعبياً. فالقضاء على الفكرة ليس بالأمر السهل أو الهين، وذلك ما لم تدركه إسرائيل، وكذلك الأطراف الوسيطة بين حماس وإسرائيل، وما بين حماس وفتح.
وفكرة المقاومة تنشأ فى أحضان الظلم، ويشتد عودها كلما اشتد مقدار الظلم. وقد ارتبطت فى الوجدان الفلسطينى باغتصاب الأرض وسحق الإنسان، واشتد عودها بسبب الحصار المرير وغير الإنسانى الذى أهلك سكان غزة على مدار شهور طويلة. فى ظل هذا الوضع كان من الطبيعى أن تنطلق حماس وأن تقاوم من أجل حق الشعب - الذى تمثله - فى الحياة، وإقامة الدولة، وفى الخضوع للمنهج الديمقراطى الذى تتشدق به الأفواه الغربية. لذلك فلا يوجد حل سوى تعديل الشروط الظالمة التى تحكم سكان غزة بانسحاب جيش الاحتلال، ورفع الحصار، وضرورة أن تنصاع «فتح» لحق حماس فى تشكيل الحكومة رضاء بقواعد اللعبة الديمقراطية.
مشكلة من يتعاملون مع الملف الفلسطينى فى مواجهة هذه الكارثة الإنسانية التى يحياها أهل غزة أنهم يعتمدون على نظرية «لوم الضحية»، فهم يلومون حماس لأنها تطلق الصواريخ على إسرائيل، مثلما فعل الرئيس الفرنسى ساركوزى عندما وصف إطلاق الصواريخ بأنه « ذنب لا يغتفر» (من جانب الإله الإسرائيلى بالطبع)! لكن أحداً لا يتحدث عن الحصار الذى دفع إلى ذلك، وإذا كانت إسرائيل تبرر لنفسها – أخلاقياً – سحق الأهالى فى غزة،
ويردد مسؤولوها الفكرة التى حفظوها معاً فى «كتاب المطالعة اليهودى» أن القوات العسكرية تدافع عن المواطن الإسرائيلى، فكيف لها - ومن يحذو حذوها – أن تنكر على المقاومة الفلسطينية حقها فى الدفاع عن الشعب - الذى أعطاها صوته فى الانتخابات - ضد الحصار الظالم المفروض عليه، ذلك الشعب الذى تعاقبه إسرائيل حالياً بعقوبة «الإبادة الجماعية» لانتخابه حماس، وتلومه الأنظمة العربية وتنظر إليه كسبب فى عمليات القتل التى تمارس ضده للسبب نفسه.
إن أى طرف عربى أو دولى لن يستطيع أن يحل هــــذه المشكلة إذا لم يستبدل نظرية «لوم الضحية» بنظرية «معاقبة الجانى» فى التعامل مع هذا الموقف. وعلى هذه الأطراف أن تستوعب حقيقة أن المقاومة «فكرة»، وأن هذه الفكرة قابعة فى صدور الفلسطينيين، وأنها لن تتراجع إلا فى حالة تعديل الشروط الظالمة التى يعيش فى ظلها أبناء غزة والضفة واللاجئون الفلسطينيون فى الخارج، وعليهم أن يستوعبوا أن مفاهيم الحرب قد اختلفت، وأن الانتصار فيها لم يعد لمن يملك أسلحة الدمار والقتل والسحق، بل يتأسس على حقيقة الإيمان بالحق، وأن هذا الإيمان هو الحقيق بالنصر.
فالاستمرار على معالجة القضية من منظور لوم الضحية لن يحقق شيئاً، وسوف يجعلنا نعود إلى أول السطر من جديد ليتكرر ما يحدث، مثلما تحكى أسطورة «سيزيف» الذى حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة ويصعد بها الجبل لتسقط منه عندما يصل إلى قمته، وينزل إلى السفح ليرفع الصخرة إلى أعلى من جديــد! على جميع الأطراف المعنية بحل هذه القضية أن يعلموا أن «سيزيف» لم يعد يحمل الصخرة، وأنه ترك مهمة حملها – كما يقول الراحل الجميل أمل دنقل – لمن يولدون فى مخادع الرقيق!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق