الدستور
فهمي هويدي
حكم القضاء الإداري بوقف تصدير الغاز لإسرائيل وبعض الدول الأخري لم يحرج الحكومة فقط، وإنما أدانها أيضاً وشكك في نواياها، علي نحو لو أخذ مأخذ الجد في أي بلد ديمقراطي، لأدي إلي سحب الثقة من الحكومة وإسقاطها، بل لعلي لا أبالغ إذا قلت إن محكمة القضاء الإداري فضحت تلك الصفقة المريبة، الأمر الذي يثير عديداً من الأسئلة الكبري حول حقيقة الأطراف التي تقف وراءها، وحجم النفوذ الذي يتمتع به هؤلاء، الذي دفع الحكومة إلي ارتكاب مجموعة من المخالفات الجسيمة للإسراع بعقد الصفقة وتمريرها من وراء ظهر مجلس الشعب.
وهو ما دفع مجموعة من العناصر الوطنية التي استفزها هذا السلوك، إلي مقاضاة الحكومة ووزير البترول والطعن في تصرفاتهما، وشاءت المقادير أن تنظر القضية محكمة يرأسها قاضٍ نزيه من جيل الرجال المحترمين الذين لم ينقرضوا من مصر بعد، فجاء حكمها مفاجئاً في منطوقه وحيثياته، الأمر الذي أحرج الحكومة وأربكها؛ إذ في حين امتنع المتحدث الرسمي باسمها عن التعليق علي الحكم محتجاً بأنه لم يطلع علي نصه، فإن الإعلام الرسمي حاول تشويهه، فقد ذكر شريط الأخبار الذي بثه التليفزيون أن المحكمة قررت وقف بيع الغاز لإسرائيل بأسعار تقل عن الأسعار العالمية وقيمتها السوقية، وهو ما أبرزته أيضاً الصحف القومية الثلاث علي صفحاتها الأولي، وهذا لم يكن صحيحاً لأن المحكمة أصدرت قرارها استنادا إلي وجود مخالفة دستورية وقانونية في عملية البيع، وليس بسبب انخفاض سعر بيع الغاز، الذي هو بمثابة مسألة تقديرية، وكان واضحاً في معالجة الصحف القومية حرصها علي التقليل من شأن الحكم والتأكيد أن الحكومة ستطعن فيه: فعنوان الخبر في «الأهرام» كان كالتالي: القضاء الإداري يوقف بيع الغاز لإسرائيل وهيئة قضاء الدولة تستشكل، أما «الأخبار» فقد قدمت الاستشكال علي قرار المحكمة، فقال عنوان الصفحة الأولي: إن هيئة قضايا الدولة سوف تستشكل في تنفيذ حكم وقف تصدير الغاز لإسرائيل، أما «الجمهورية» التي أبرزت في قلب الصفحة الأولي - بالعناوين الحمراء - خبر افتتاح لمهرجان القاهرة السينمائي، فإنها نشرت في زاوية تحتية قرار المحكمة علي النحو التالي: الحكومة تتقدم باستشكال اليوم - القضاء الإداري: وقف بيع الغاز لإسرائيل بأسعار تقل عن السوق العالمية «!!».
لقد مارس الإعلام القومي التدليس في عرض حيثيات الحكم، ولولا ضيق المساحة لأوردت النص الذي نشرت الصحف المستقلة خلاصة وافية له، لكني لا يفوتني أن أشير إلي نقطتين مهمتين فيه، الأولي: نص الحكم علي أن الالتزام ببيع الثروات الطبيعية كان ينبغي أن يعرض علي مجلس الشعب - طبقاً لنص الدستور - ولكن ذلك لم يحدث، وإنما تم التكتم علي الأمر بحيث لم يعرف أحد مضمون عقد بيع الغاز أو شروطه، وهو ما يجعل قرار التفويض في البيع معدوماً لمخالفته لأحكام الدستور، ولا ترتب عليه أي أثر قانوني، النقطة الثانية: أن القاضي انتقد السرعة المتناهية التي تمت بها عملية إنشاء شركة خاصة فوضت في البيع، ومنحها دون غيرها حق امتياز واحتكار الغاز المصدر لإسرائيل»، الأمر الذي يثير التساؤل عن أسباب ذلك التزامن والتكتم الشديد الذي فرضته الإدارة علي العملية، مما يتعارض مع الشفافية ويخل بالثقة الواجب توافرها في تعاملات جهة الإدارة.
وهذه العبارة الأخيرة منقولة عن منطوق الحكم الذي أصدره القاضي، المستشار محمد أحمد عطية، وفيها إشارة كافية للملابسات المريبة التي أحاطت بالموضوع - نكمل غداً بإذن الله.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق