المصريون
السفير د. عبدالله الأشعل
لابد أن نعترف بأننى أشعر بالقهر والضيق كلما تناولت مسألة تتعلق بإسرائيل وعلاقتها بمصر، فقد أكدت غير مرة أننى رغم كل شىء لم أفهم هذا المثلث الغامض وهو العلاقات الثلاثية بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، وعجزت عن تقديم أى تفسير مقنع وعقلانى لهذه العلاقة الغريبة والتى سمحت للرئيس مبارك أن يدعو ليفنى لزيارة مصر يوم 25 ديسمبر 2008 ، وأن تعقد مؤتمراً صحفياً تسلك فيه سلوكاً لا يتفق مع الوقار المطلوب فى المسئولين فى أى دولة تعبيراً عن استهتارها بالجميع، وهى نفسها التى قال فيها الرئيس مبارك فى تصريحات رسمية فى أوائل عام 2008 أنها تجاوزت جميع الخطوط الحمراء معه، ولكنه مع ذلك حريص على العلاقات مع إسرائيل. من ناحية أخرى فإن إسرائيل تسعى لتدمير فرص انتخاب وزير الثقافة المصرى لمنصب مدير عام اليونسكو، ورغم ذلك تستميت الحكومة المصرية فى تقديم 55 مليون جنيه مصرى يومياً للمواطن الإسرائيلى فى صفقة الغاز، كما تحارب القضاء الإدارى وتوعز لبعض القضاة للزراية بأحكامه، وأخيراً تزعم أن تفضيلها للمصالح الإسرائيلية على مصالح المجتمع المصرى عمل من أعمال السيادة، وقد أوضحنا فى مقال سابق أن أعمال السيادة لا يمكن أن تستخدم ستاراً أو مبرراً لانتهاك الدستور المصرى، وإهدار مصالح الشعب المصرى لصالح عدو يتربص بنا ونذر نفسه للنيل من مصالحنا، الأدهى من ذلك أن الحكومة قد عمدت إلى تخويف الشعب المصرى وبث الأكاذيب والتذرع بأن سلوكها اتجاه إسرائيل التزام نابع من معاهدة السلام، فقد أشارت معاهدة السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل إلى البترول ولم تذكر كلمة الغاز مرة واحدة، وحتى بالنسبة للبترول فقد ورد فى المعاهدة أن تبيعه مصر لإسرائيل بالشروط العادية، وليس فى المعاهدة أن مصر ملتزمة ببيع البترول لإسرائيل إلى الأبد وبأسعار محددة سلفاً، وهذا نوع من العبودية الإقتصادية لإسرائيل يفضح صانع المعاهدة إن صح هذا القول، كما يفضح الحكومة إن فسد القول. أما دفع الحكومة بأن المادة الثالثة من إتفاقية السلام تلزم مصر بتصدير الغاز إليها فإنه تفسير غريب لما جاء فى هذه المادة واستخفاف بعقول المصريين جميعاً خاصة الذين لم يقرؤوا المعاهدة والذين يجب أن نثقفهم وننشر المعاهدة لهم. يقوم هذا التفسير على ما ورد فى الفقرة الثالثة من المادة الثالثة فيما يتعلق بإنهاء المقاطعة الإقتصادية وأسوار التمييز التى تحد من حرية انتقال الأفراد والبضائع. فما هى علاقة الامتناع عن مقاطعة إسرائيل وبين إلتزام مصر بتصدير الغاز والبترول إليها؟ ذلك أن الامتناع عن المقاطعة امتناع عن عمل أما توريد الغاز فهو إلتزام بعمل، وهذا دجل قانونى صراح يجب أن يعلمه المجتمع المصرى. وإذا كانت الحكومة فى كل مناسبة تتعلق بإسرائيل تحتمى دائماً بهذه المعاهدة فقد آن الآوان أن يتدارس المصريون هذه المعاهدة وأن نجعل عام 2009 هو عام المعاهدة؛ حتى يقرر المصريون ويقيمون علاقة مصر بإسرائيل خلال الثلاثين عاماً الماضية ويستخلصون بأنفسهم ماذا خسرت مصر وماذا كسبت، وللشعب أن يقرر بعد ذلك إن كان يريد استمرار المعاهدة أو تعديلها أو إلغاءها.
وقد ورد النص على العلاقات التجارية والإقتصادية بين مصر وإسرائيل فى المادة الثانية من الملحق الثالث، وأكدت هذه المادة على نفس المعنى السابق وهو إقامة علاقات إقتصادية عادية وإنهاء المقاطعة الإقتصادية والدخول فى مفاوضات لإبرام اتفاق تجارى بغرض تنمية العلاقات الإقتصادية النافعة. أما الملحق الثالث من المحاضر المتفق عليها وهو التفسير الذى أتفقت عليه مصر وإسرائيل فى المعاهدة فقد أدى نفس المعنى أيضاً؛ حيث نص على إنشاء علاقات إقتصادية عادية، وأن هذه العلاقات تشمل أن تقوم مصر ببيع البترول بالشروط التجارية العادية normal commercial sales of oil ، كما نص هذا الملحق على أن يكون لإسرائيل الحق الكامل فى أن تطلب من مصر تزويدها بالبترول المنتج فى مصر والذى لا يكون الإستهلاك المحلى بحاجة إليه، أى أن ما يفيض عن حاجة الإستهلاك المحلى فى مصر يمكن أن تطلب إسرائيل الحصول من مصر عليه. ومعنى ذلك أنه ليس هناك أى إلتزام على مصر بتصدير البترول لإسرائيل سواء بالشروط التجارية العادية أو فيما زاد عن حاجة السوق المحلى المصرية، ولا أدرى من أين جاءت الحكومة بترتيب أمتياز لإسرائيل فى مجال البترول من حيث السعر والكمية والمدة. لذلك نص هذا الملحق على أن تنظر مصر وأصحاب الإمتياز البترولى فيها فى الطلبات التى تقدمها إسرائيل على نفس الأساس وبنفس الشروط التى تطبق على البترول فى مثل هذه الأحوال. أى أن هذا الملحق لا يعطى أى أمتياز لإسرائيل كما لا يلزم مصر بأن تقدم شيئاً خاصاً لها.
وبناء على ما تقدم فإن إصرار الحكومة المصرية على تفسير المعاهدة لصالح إسرائيل خارج نصوصها يدل على علاقة مشبوهة تدخل فى سياق التجريم الجنائى والخيانة العظمى وأرجو أن يكون ذلك بلاغاً إلى النائب العام للتحقيق فى هذه الوقائع وتقديم المسئولين عن صفقة الغاز لمحاكمة جنائية، بمن فيهم المدافعون الرسميون عن موقف الحكومة وهيئة قضايا الدولة والصحفيون من الصحف القومية الذين يدافعون عن موقف الحكومة المريب بشكل أعمى، خاصة وأن إسرائيل تستطيع أن تتمسك بدفوع الحكومة على أنها أساس لإمتيازات جديدة ليست واردة فى المعاهدة وأنها التفسير الرسمى لإلتزامات مصر فى المعاهدة. وبدلاً من أن تنهى الحكومة هذه المهزلة فى صمت فإن هذا الموقف لابد أن يثير الشك فى المجتمع المصرى تجاه حكومته، وأرجو أن يسفر التحقيق عن رد الإعتبار لمصر ومصالحها، وأن يقدم أعضاء الحكومة للمحاكمة الجنائية وكذلك كل من له صلة بهذه المأساة، وأرجو أن يتفضل الرئيس مبارك بإقالة الحكومة التى لم تعد صالحة أو مؤهلة لخدمة مصر.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق