ألغاز.. فى بيع «الغاز»!!
العربى
سليمان الحكيم
ليس هناك ما يستفز الشعور بالغيظ أكثر من العبارة التى اقتبست من الميثاق الوطنى وظلت محفورة على المبنى الإدارى لمجلس الشعب حتى اليوم رغم انتهاء العمل بذلك الميثاق الذى أصدره جمال عبدالناصر فى مطلع الستينيات من القرن الماضي. ليكون عقدا اجتماعيا تم التراضى على العمل به بين الشعب وسلطته الحاكمة فى ذلك الوقت. ولكن العبارة التى تقول «ان الديمقراطية هى توكيد السيادة للشعب» ظلت عصية على المحو من على جدران مجلس الشعب. كما ظلت كذلك ايضا بعد أن استقرت فى الدستور المعمول بنصوصه حتى الآن. خاصة فى مادته الثالثة التى تقول بأن «الشعب هو صاحب السيادة»، ولكنها محيت من الواقع. وأزيلت من الوجود عند النظر الى الممارسة الفعلية للديمقراطية على يد الحكومة والسلطة الحاكمة التى انتزعت تلك السيادة من ايدى الشعب ولتستأثر بها لنفسها. وتصبح لها كل السيادة على الشعب.. ودون الشعب!
كان الأمر سيصبح مفهوما ـ وعلى استقامته ـ لو أن هذه السلطة التى تمارس السيادة على الشعب ـ ودونه ـ كانت منتخبة من قبل الشعب انتخابا حراً لتفويضها بممارسة السيادة نيابة عنه. ولكن تزوير الانتخابات وإرادة الناخبين الذى ذاع صيته مشهورا ـ ومشهوداً ـ فى كل الأوساط ـ محلية ودولية ـ يؤكد انه لا يحق لهذه السلطة الحاكمة أن تمارس السيادة بعقد مزور. وان كل ما يصدر عنها من قرارات وأحكام وما تتخذه من مواقف باسم تلك السيادة المنتحلة هو محل شك ومحض افتراء.
وليس هناك دليل على التناقض الصارخ بين ما ينص عليه الدستور من تأكيد للشعب وبين الواقع العملى فى الممارسة هو ما جرت عليه العادة من اطلاق أسماء تقليدية على بعض المؤسسات التنفيذية. التى لم يشارك الشعب فى انتخابها وجاءت عن طريق التعيين. فنقول «انها مؤسسات سيادية». أو جهات سيادية» أى انها تتمتع بالسيادة دون أن يفوضها الشعب ـ صاحبها الأصيل ـ بذلك. فنقول عن وزارة الداخلية أو أمن الدولة ـ مثلاً ـ انها جهات سيادية. كما نقول عن رئاسة الجمهورية أو غيرها من المؤسسات المعاونة أنها جهات سيادية. رغم انها ليست جهات شعبية تم انتخابها بالطريقة الصحيحة التى تجرى بها الانتخابات فى الدول الديمقراطية.
وكان من نتيجة هذه الأخطاء الشائعة التى تعودنا عليها دون الوقوف عندها. لاختبار مدى صحتها من الناحية الدستورية ان صدرت أحكام وقرارات مصيرية فى الآونة الأخيرة. وذكرت مصادرها انها تدخل ضمن «أعمال السيادة» لتلك الجهات. خذ مثلاً على ذلك. موضوع تصدير الغاز لإسرائيل. التى ألغت المحكمة الإدارية العليا حكماً أصدرته المحكمة الإدارية بمنع تصديره لإسرائيل. وقد استندت الإدارية العليا فى حكم الالغاء على أن تصدير الغاز أو عدم تصديره لإسرائيل عمل من أعمال السيادة التى تمارسها الحكومة على ثروة الوطن.. ويحق لها ان تمارس سيادتها بقرار التصدير أو منعه!
اذن ـ وحسب حكم المحكمة الإدارية العليا ـ لم تعد هناك سيادة للشعب على ثرواته البترولية وغير البترولية. وان السيادة فى هذا المجال للحكومة أو السلطة الحاكمة وحدها ـ ولها تبعاً لذلك ان تتصرف وفق ما تراه هى ـ وليس ما يراه الشعب ـ فى تلك الثروة «حسب مزاجها».. حتى لو أعطته منحة لاعداء الشعب!
المفروض فى البترول والثروات المعدنية. انه ملك للشعب على أرضه ـ ليس فقط الشعب فى هذا العصر أو الجيل ـ ولكنه الشعب بأجياله المتعاقبة. فالأجيال القادمة لها نفس الحق فى ثروات الوطن. وليس للجيل الحالى أن يتصرف فيها كما يحلو له وحسب مصلحته الأنية دون النظر لمصلحة الأجيال الآتية التى تملك نفس الحق. ولنضرب مثلا لذلك بالآثار.. ما الذى يجعل السلطة الحاكمة فى مصر الآن تدعى ملكيتها للآثار الفرعونية أو الاسلامية أو القبطية. وتمنع التصرف فيها بالبيع أو التهريب رغم ان أصحابها من المصريين القدماء قد ماتوا واندثروا. ولم يعد لهم وجود الآن؟ هل يحق للحكومة الحالية أن تبيع الأهرام مثلا. لدولة أخري. باعتبار ان ذلك عمل من أعمال السيادة؟!
ان ملكية الحكومة للآثار. التى لم تبنها هي. ولم تشارك حتى فى اكتشافها جاء وفقاً لمبدأ الملكية العامة. أو ملكية الشعب. الذى يحرم الحكومة من سلطة التصرف فيها لأنها آلت إليها من أجيال سابقة. ولو كانت الحكومات السابقة فى مصر قد تصرفت فى تلك الآثار بالبيع لجهات أخري. باعتبار أن هذا التصرف عمل من أعمال السيادة. هل كان يحق للحكومة الحالية ان تسترد تلك الآثار باعتبارها من الأملاك العامة التى لا يجوز التصرف فيها. نعم!
نعم. فقد عملت الحكومة الحالية ـ والحكومات السابقة ـ على استرداد آثار مصر المهربة. عن طريق البيع أو الاهداء الى الخارج يؤيدها فى ذلك القانون الدولى الذى يوجد عليها استرداد تلك الآثار لأنها لا تزال تملكها كما كان القدماء يملكونها حتى لو كانت فى حوزة آخرين! ما الفرق إذن بين الآثار التى تم استخراجها من باطن الأرض. والبترول من حيث ملكية الشعب له؟!
صحيح ان البترول مادة استهلاكية. ولكن لماذا يحق لنا نحن أبناء الجيل الحالى فى مصر. ان نستهلكه وحدنا فى هذا الجيل دون ان نبقى على شيء منه لليل القادم. الذى يملك الحق فى الأرض. كما نملكه نحن أيضا؟!
اذن فإن السلطة التى تبيع البترول لإسرائيل أو غيرها لا تتصرف فى حقها فقط. بل تتصرف فى حق حكومات وأجيال قادمة. لها نفس الحق فيه. واذا كانت الآثار لها صفة البقاء والديمومة ويمكن استردادها فى الأجيال القادمة.. فكيف يمكن لهذه الأجيال أن تسترد حقها فى البترول بعد ان تم استهلاكه؟!
لو ان الحكومة قد أجرت استفتاء بين الشعب على تصدير البترول لإسرائيل لجاءت النتيجة قاطعة بالرفض. فإذا كان البترول وكل ثروات الأرض المعدنية ملكاً للشعب. وهو وحده صاحب السيادة عليه. فلماذا لا تجرى الحكومة مثل هذا الاستفتاء ليقرر فيه الشعب بنفسه كيف يتصرف فيما يملك هو ولا ينازعه أحد الحق فيه؟!
لماذا لا يلجأ للشعب مباشرة لأخذ رأيه فى كيفية التصرف فى أملاكه وحقوقه. ونترك ذلك لساحات المحاكم التى لا يحق لثلاثة أشخاص فيها. حتى وان كانوا فى أعلى درجات القضاء ـ أن يقرروا نيابة عن ثمانية مليون مصرى مصير ثروته وثروة أجياله القادمة؟!
هل يحق للقضاء المصرى ان يقر بحق الحكومة على بيع مياه النيل لإسرائيل باعتبار ان ذلك من أعمال السيادة.؟!
أليس النيل ـ مثل البترول ـ ملكية عامة لجموع الشعب المصرى فهل يحق للحكومة ان تقرر بيعه فإذا ما اعترض أحد على ذلك لجأنا للقضاء.. وهل يصح اللجوء للقضاء فى قضية مثل هذه. أم يجب اللجوء للشعب صاحب الحق الأصيل فى تقرير مصيره؟!
واذا ما قررت الحكومة ان تتصرف بالبيع فى بعض الآثار لتسديد ديون مصر مثلا ـ أو إقامة مشروع ضخم يحتاج لعملية تمويل هائلة. فهل يحق لها ذلك حتى لو قررت ذلك المحكمة الدستورية العليا ـ وهى أعلى سلطة قضائية فى مصر؟!
ان الحكومة تتعلل فى عملية تصدير الغاز لإسرائيل بأنها ليست طرفا فى اتفاقية التصدير التى تمت بين احدى الشركات المصرية. وشركة إسرائيلية فى الطرف الآخر. ولهذا لم تعرض تلك الاتفاقية على مجلس الشعب للنظر فى اقرارها أو مدى صحتها. كما كان يقضى الدستور بذلك. فلماذا اذن لم تتقدم تلك الشركة المصدرة بالاعتراض على الحكم الصادر من المحكمة الادارية بمنع تصدير الغاز لإسرائيل. وتقدمت الحكومة بهذا الاعتراض بدلا منها لإبطال القرار أمام المحكمة الإدارية العليا؟!
والأكثر من ذلك. لماذا صدر الحكم فى المحكمة الإدارية العليا بحق الحكومة فى تصدير الغاز لإسرائيل لأنه عمل من أعمال السيادة. رغم ان الحكومة ـ كما تدعى هى ـ ليست طرفا فى القضية. لأنها لم تكن طرفا اصلا فى الاتفاقية الموقعة بين الشركتين المصرية والإسرائيلية؟! لماذا الاستثناء اذذن على «السيادة» رغم ان الذى يقوم بالتصدير شركة مصرية ـ وليست الحكومة؟ هل انتقلت السيادة من الشعب الى الحكومة ومنها الى شركة خاصة يملكها بعض الأفراد؟!
هل رأيتم الى أين وصلت بنا اخطاؤنا السائدة فى أعمال كلمة «السيادة» التى هى للشعب كما يقول الدستور. فإذا بها تنتقل الى الحكومة. ومنها الى بعض الأفراد من أصحاب رءوس الأموال!
والأخطر ان «السيادة» المملوكة للشعب على ثروته الوطنية انتقلت الى بعض الأفراد فيه بحكم محكمة عليا ولم يعد للشعب من سيادة بعد أن سكت على انتزاعها من يده لتصبح فى ايدى العابثين بمقدرات الوطن وأجياله القادمة. فأصبح من حق بعض رجال الأعمال أن يؤسسوا شركة لتصدير مياه النيل. أو الآثار. وان يبيعوا احجار الأهرام. وان يوقعوا الاتفاقيات بذلك مع شركات أجنبية مستوردة. دون المرور على مجلس الشعب. ودون استفتاء الشعب عليها. لتخرج الحكومة علينا بحجة انها ليست طرفا فى هذه الاتفاقية التى لا تعنيها من قريب أو بعيد ثم تسارع باللجوء الى المحكمة لوقف الحكم ضد البيع أو التصدير. ويصدر الحكم باستئناف البيع ـ بيع الهرم ـ أنه عمل من أعمال السيادة!!
ان الشعب ـ الذى هو صاحب السيادة دستوريا ـ خرج الى الشارع مطالبا بفتح معبر رفح أمام تدفق المساعدات الانسانية لشعب غزة المحاصر. ورغم ذلك لم تستجب الحكومة لأوامر الشعب ومطالبه وظلت تغلق المعبر. حتى فى وجه الأطباء والمهندسين. بحجة ان فتح المعبر وإغلاقه عمل من أعمال السيادة. ولو كانت الحكومة تقر بأن السيادة للشعب فعلاً لقامت بفتح المعبر استجابة لمطالبه. ولكنها لا تعترف بسيادة الشعب على أرضه وحدوده. ولا تقر لأحد بغير سيادتها هي. فلماذا لا نلجأ الى اجراء استفتاء للشعب على تلك المسائل الخلافية بينه وبين سلطته الحاكمة؟ لماذا تخشى الحكومة من إجراء مثل هذا الاستفتاء رغم خبرتها الكبيرة فى تزوير الاستفتاءات والتلاعب فى نتائجها؟! فإذا كانت الحكومة لا ترغب فى مساعدة الشعب الفلسطينى المحاصر ومده بما يلزم من مقومات الحياة. فلماذا تمنع غيرها من تقديم تلك المساعدات التى تضن بها على شعب يموت جوعاً أو نزفاً؟! انها لا ترحم.. ولا تترك رحمة بنا تنزل. ثم تأتى بعد ذلك ليتشدق مسئولوها بما قدمته مصر من تضحيات فى سبيل الشعب والقضية الفلسطينية منذ عشرات السنين. فلماذا تبخل على هؤلاء بالمساعدة والتضحية إذا كانت هى نفسها عاجزة أو غير راغبة فى تقديمها؟!
وهكذا أصبحت السيادة فى يد الحكومة. سلطة للخنق والحصار، ليس خنق الشعب المصرى فقط. بل الشعب الفلسطينى ايضا. لتثبت ان المهم لديها هو السيادة حتى لو أدى ذلك لخراب العالم!!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق