الجمعة، ٦ فبراير ٢٠٠٩

نعم.. تعليقًا علي أحكام القضاء!

البديل

سها بيومي

أصدرت المحكمة الإدارية العليا في الثاني من فبراير الجاري ثلاثة أحكام في ثلاث قضايا تمس العديد من المحاور الهامة في بلدنا: الحكم الأول يقضي بقبول الطعن المقدم من الحكومة ضد حكم محكمة القضاء الإداري الذي يقضي بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، والحكم الثاني يقضي بوقف تنفيذ الحكم التاريخي الصادر أيضا عن محكمة القضاء الإداري والذي يقضي بإغلاق مكاتب حرس الجامعة التابعة لوزارة الداخلية وتغييرها بوحدات أمن مدنية غير مسلحة. أما الحكم الثالث فيقضي بوقف تنفيذ الحكم الصادر من القضاء الإداري أيضا الذي يقضي بفتح معبر رفح ودخول قوافل الإغاثة المصرية إلي الشعب الفلسطيني في غزة، ويؤكد الحكم ضرورة سلك هذه القوافل "للقنوات الشرعية" من أجل توصيل المساعدات لسكان غزة.
من الجدير بالذكر أن جميع الجهات التي ناضلت لاستصدار أحكام من قبل القضاء الإداري، مثل الحملة الشعبية لوقف تصدير الغاز وحركة 9 مارس التي تسعي لتحقيق الاستقلال الجامعي والحريات الأكاديمية وغيرهما- أكدت أن المعركة لم تنته بعد وأنها مستمرة في نضالاتها من أجل تحقيق مطالبها المشروعة، وبينما قال العديد من متحدثي هذه الجهات إن هذه الأحكام جاءت "مخيبة للآمال"، أكد الجميع تقريبا علي الالتزام "بعدم التعليق علي أحكام القضاء"!
وصف هذه الأحكام بـ"المخيبة للآمال" هو أقل رد فعل تجاه أحكام تسعي لسلب الشعب المصري أمله في أن يوضع حد لمهزلة تصدير الغاز المصري لإسرائيل بربع السعر العالمي لمدة 52 عاما في الوقت الذي يحتاج فيه الشعب المصري والصناعات المصرية لهذا الغاز أشد الاحتياج وفي الوقت الذي تضخ فيه إسرائيل هذا الغاز في آلتها الحربية التي تسحق الشعب الفلسطيني؛ هذه الأحكام التي تسعي لإحباط نضال الشعب المصري الساعي لتحقيق استقلال جامعاته وتحرير أنشطتها العلمية والفكرية والثقافية من هيمنة أمن الدولة والقمع البوليسي؛ هذه الأحكام التي تسعي لقمع إرادة الشعب المصري المهموم بمساعدة شعبه الجار المحاصر علي عتباته؛ هذه الأحكام التي سمحت لجهاز الدولة أن يبتلع المجتمع وأن يختزل أنشطة المجتمع وتحركاته وحشوده في "قنوات شرعية" تحترم "سيادة الدولة علي إقليمها وحدودها" لكنها لا تحترم بالضرورة إرادة الشعب المصري.
نعم أقل ما توصف به هذه الأحكام هو أنها "مخيبة للآمال"، ولكن الأهم من هذا هو الترويج لهذه الفكرة الباطلة التي تؤكد "ضرورة عدم التعليق علي أحكام القضاء". لا يوجد بالدستور أو بالقانون المصريين ما يجرم التعليق علي أحكام القضاء، خاصة بعد صدور الحكم (فمن المفهوم في معظم الأنظمة الديمقراطية أن توضع بعض القواعد للمناقشة العامة للقضايا التي ينظرها القضاء للحد من التأثير علي سير العملية القضائية)، ما دام المرء لا يتعرض لشخص القضاة. إلا أن الكثيرين يقعون ضحايا لهذه الفكرة الخبيثة التي يتم الترويج لها كثيرا، بل إن البعض ـ ومنهم أساتذة قانون ـ يقولون إنه لا ينبغي التعليق علي أحكام القضاء إلا من قبل المتخصصين. وهذا أمر لا أفهمه، وإن فهمته فأنا لا أقبله لأسباب عدة.
منذ متي كان القانون حكرا علي المختصين؟ أعلم أننا نعيش في عصر حكم المختصين أو حكم الخبراء كما يسميه البعض، فتعقد المجتمعات الرأسمالية الحديثة أنه يخدم فكرة النخبة في حد ذاتها كما يخدم مصالحها، وبالتالي يصبح ليس فقط الطب حكرا علي الأطباء، والهندسة حكرا علي المهندسين، والسباكة حكرا علي السباكين، بل يصبح الاقتصاد أيضا حكرا علي الاقتصاديين، والسياسة حكرا علي السياسيين، والقانون حكرا علي القانونيين، وهذا ينطوي في رأيي علي كارثة محدقة ينبغي التعامل معها بحرص ومحاولة التغلب عليها عن طريق ثلاث وسائل متوازية:
الوسيلة الأولي تتمثل في المحاسبة، فكما نثق في الطبيب لعلاجنا ونثق في المهندس لبناء عماراتنا وفي السباك لتصليح حماماتنا، إلا أننا نخضعهم للمحاسبة إن أخطأوا، ونطالبهم بشرح الأسباب التي دفعتهم للتصرف بطريقة ما بدلا من أخري. ومن ثم، فإنه ينبغي علينا أيضا إخضاع السياسيين والاقتصاديين والقانونيين لنفس أشكال المحاسبة، وهذا لا يتأتي إلا بالمطالبة بدرجات عالية من الشفافية.
الوسيلة الثانية تتمثل فيما أسميه بإعادة التملك، وأعني بذلك إعادة تملك "الخبرات" التي احتكرها الخبراء، عن طريق محو الأمية ونشر التعليم ورفع الوعي والنهوض بالمستوي الثقافي العام، والاهتمام بتدريس مبادئ القانون والسياسة والاقتصاد في المدارس والجامعات والتثقيف من خلال المجتمع المدني وحركاته المختلفة، بحيث يمكننا ذلك من محاسبة "الخبراء".
أما الوسيلة الثالثة فهي وسيلة سياسية وفلسفية بالدرجة الأولي والهدف منها هو تأكيد الفروق الخطيرة بين الطب والهندسة والسباكة، علي سبيل المثال، من جانب، والسياسة والاقتصاد والقانون من جانب آخر، ورفض احتكار الخبراء للسياسة والاقتصاد والقانون، لأنها شئون عامة تخص جميع المواطنين علي نحو متساوٍ، والقانون ما هو، في النهاية، إلا قواعد يتفق عليها المجتمع لتسيير أموره. والمستفيد الوحيد من جهل المواطنين بالقانون وبتفاصيله هو النخب السلطوية التي يتلخص دورها في مجتمعنا في ثلاث وظائف تقوم بها السلطة ـ متخذة أشكالها التشريعية والتنفيذية والقضائية علي التوالي ـ وهي تفصيل قوانين تخدم مصالح التحالفات الحاكمة واستقرار حكمها، وإحكام قبضة هذه التحالفات الحاكمة علي الشعب وأخيرا الالتفاف حول القوانين التي لم يتم تفصيلها جيدا.
أود أن أنوه أخيرا بأن هذا المقال معني بمؤسسات السلطة وليس بالنقد الفردي، لأنني أعلم كما يعلم الجميع أن القضاء المصري يزخر -علي مدي تاريخه- بقضاة يتحلون بأعلي درجات النزاهة والشرف، إلا أنني أردت فقط أن أؤكد حقنا في التعليق علي أحكام القضاء <

ليست هناك تعليقات: