المصرى اليوم
د. محمود خليل
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، التى يتهم فيها الدكتور «جودت الملط» - رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات - الحكومة بالتسيب والاستخفاف وإهدار المال العام وارتكاب جرائم سياسية!، ولا خلاف على قيمة الدور الذى يقوم به الجهاز، وشجاعة الدكتور «الملط» فى إقرار الواقع الواضح لكل ذى بصر عن تردى أداء الجهاز الحكومى وتسببه فى الزج بهذا البلد إلى حافة الهاوية!.
فما بالنا والأمر يتعلق بمن يملكون المعلومات والمستندات وينهضون بمسؤولية مراجعة أداء وزارات الدولة المختلفة. فما أكثر الجرائم السياسية التى ارتكبت فى حق هذا الشعب.
وليس بعيداً عن أحد جريمة تصدير الغاز بأبخس الأثمان إلى إسرائيل، وبيع أملاك الشعب فى إطار برنامج الخصخصة دون أن يعرف أحد كم بلغت وأين ذهبت حصيلة بيعها، ومشروع «صكوك الملكية» الذى يعبر عن استمرار الحكومة فى الضحك على ذقون الناس، وتخريب المشروعات التى تدر أرباحاً هائلة على الدولة، مثل مرفق السكك الحديدية، من أجل تبرير بيعها بتراب الفلوس إلى رجال أعمال الدولة!
لذلك فليس من المستغرب أن يصف رئيس جهاز المحاسبات الحكومة بالاستخفاف والتسيب، لكن الأمر الذى يثير الحيرة فعلاً - لدى الكثيرين - أن هذا الجهاز نفسه لا يعمل بعيداً عن مطبخ الدولة، فى ظل ما هو معروف عن تبعيته لرئاسة الجمهورية. فقد نص القانون رقم ١٥٧ الصادر سنه ١٩٩٨ على تبعية الجهاز لرئيس الجمهورية بحسبانه رئيسا للدولة يسهر على تأكيد سيادة الشعب وعلى احترام الدستور وسيادة القانون، مع التأكيد على تعاون الجهاز مع مجلس الشعب فى القيام بمهامه فى الرقابة على أموال الدولة وأموال الاشخاص العامة الأخرى.
ومن الأمور المفارقة أن التقارير التى تصدر عن الجهاز لتفضح الجرائم التى ترتكب فى وزاراتنا ومؤسساتنا يتم عرضها على مجلس الشعب، رغم توازى دوره الرقابى مع الدور الذى يقوم به جهاز المحاسبات! ويبدو أن إحساس البعض بأن مجلس الشعب يمثل الحكومة فى النهاية هو السبب الذى يقف وراء عرض مثل هذه التقارير عليه.
ولكن إذا كان من الممكن أن نفهم فكرة أن مجلس الشعب هو فى النهاية مؤسسة تمثل حكومة الحزب الوطنى وبالتالى فهو لا يستطيع «العض» فيها، فكيف يمكن أن نفهم الوضع بالنسبة للجهاز المركزى للمحاسبـــات التابع - بنص القانون - لمؤسسة الرئاسة؟! خصوصاً أن هذه المؤسسة هى التى تختار الحكومة، وتوصف أدوارها و تحدد مهامها التنفيذية.
لقد كان من الممكن أن نفهم هذا السيل من الاتهامات – الحقيقية والمؤكدة – التى يوجهها الجهاز المركزى للمحاسبات إلى الحكومة إذا كان الجهاز يعمل باستقلالية عن أى مؤسسة، كما كان الحال عليه منذ تأسيسه قبل الثورة تحت اسم ديوان المحاسبة إلى عام ١٩٩٨، حين أصبح جهازاً تابعاً لرئاسة الجمهورية.
فى ظل ذلك يحق لنا أن نتساءل: إذا كانت الجهة الرقابية التابعة للرئاسة ترى أن ذلك هو مستوى أداء الحكومة فكيف تسكت عن الأمر، وكيف لا تتم محاسبة المسؤولين عن إهدار المال العام، وكذلك المسؤولون عن الجرائم السياسية التى أكد الدكتور «الملط» أن الحكومة ترتكبها؟ ولماذا لا يتم إقالتها بعد أن أصبحت شبهة لمن يدافع عنها؟ تلك الحكومة التى أبرمت – بليل - صفقة بيع الغاز لإسرائيل، ولم تهتم بالحكم القضائى، الذى صدر بإيقاف عملية البيع تلك.
وحتى لــو انتهـى الأمـر بتأكيد هذا الحكم فإن الحكومة لن «تُغلب»، وسوف تواصل جرائمها السياسية لتمنح الغاز لإسرائيل بالمجان، من منطلق أن الحكم القضائى أكد عدم البيع، وهى لن تبيع بل سوف تعطيه للإسرائليين دون مقابل. إن الحكومة «الذكية» التى تدير شؤوننا لن تتورع عن ذلك بحال من الأحوال!
فى ظل ذلك يرى البعض أن ما يكشفه الجهاز المركزى للمحاسبات – رغم أهميته – يبقى عديم القيمة، إذا لم تُتخذ قرارات حاسمة بالتغيير وبمحاسبة المسؤولين عن تخريب هذا البلد ممن لا يرقبون فى مصرى إلاًّ ولا ذمة!.
بل قد يبالغ هذا البعض إلى حد تفسير الأمر كله على أنه مجرد محاولة لتهدئة خاطر الرأى العام أو امتصاص غضبه من خلال الإفصاح عن المخالفات الجسيمة التى ترتكبها الحكومة، دون أن توجد رغبة حقيقية فى التغيير. ومما يدل على ذلك ما ذكره الدكتور «جودت الملط» من أن رئيس مجلس الوزراء الدكتور «أحمد نظيف» أقر بوجود العديد من التجاوزات، التى تميز المشروعات التى تقوم بها الحكومة، وذلك خلال حديثه معه فى إحدى المناسبات القومية.
فإذا كان رئيس الوزراء يقر بذنبه ويعترف بضعـف أداء الحكومة، ورئيس الجهاز المركزى للمحاسبات يؤكد فسادها. فلماذا يستمر الحال على ما هو عليه؟!
إن الدولة تطبق مبدأ الشفافية بصورة فريدة من نوعها، حيث لا يوجد مانع لديها من أن تعلن على الملأ أن هذا المسؤول فاسد، وأن الحكومة تهدر المال العام، وأنها فى طريقها إلى إحكام دائرة الخراب لتطوق بها عنق هذا البلد، وأنها تصدّر الغاز لإسرئيل، وأنها تبيع مشروعات القطاع العام بغير ثمنها الحقيقى، وأن فرق السعر يدخل جيوب البعض.
لا مانع لدى الدولة من كل ذلك لأنها ترفع شعار الشفافية التى تعنى الصراحة فى إعلان أن هذا لص، وأن هذا مرتشٍ،، وأن هذا مجرم، لينتهى الأمر عند هذا الحد، دون أن تتخذ أى إجراءات قانونية لمعاقبة هؤلاء جميعاً.
إنها حالة من الفوضى التى تجعل الحليم حيران حتى فى شأن الشرفاء الذين يحاولون كشف «المفضوح «فى هذا البلد. فما فعله الجهاز المركزى للمحاسبات لا يزيد عن كونه نوعاً من أنواع كشف المفضوح الذى يعلمه الجميع، من باب الثقة فى أن هذا الشعب لن يحرك ساكناً إزاء ما يحدث، وبالتالى فلا مانع من أن تقوم بعض أجهزة الدولة بالإعلان الرسمى عن حالة الفساد التى غرقنا فيها، وعلى المتضرر أن يلجأ لأقرب حائط يقابله «ليخبط رأسه فيه»!.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق