الثلاثاء، ١٦ ديسمبر ٢٠٠٨

حكم تاريخي.. ولكن

البديل

د. نصار عبدالله

رغم أن الحكم ـ الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري في 18 نوفمبر الماضي، والذي قضي بوقف تصدير الغاز الطبيعي إلي إسرائيل ـ تاريخي بمعني الكلمة إلا أن المشكلة الحقيقية التي أصبحت تواجهها مصر في السنوات الأخيرة هي: من الذي يملك القدرة علي تنفيذ حكم قضائي معين إذا كان ذلك الحكم يتضمن مساسا ما بمصالح معينة داخل مصر أو خارجها؟؟.. صحيح أن الحكم المذكور ما زال إلي الآن من الناحية القانونية الخالصة حكما غير واجب التنفيذ بعد أن سارعت هيئة قضايا الدولة (التابعة للسلطة التنفيذية) إلي الاستشكال في تنفيذه، وهو أمر طبيعي ومتوقع من جانب السلطة التنفيذية باعتبار أنها هي المسئولة والمتسببة أصلا في كارثة بيع الغاز المصري إلي إسرائيل بأسعار تقل كثيراجدا عن الأسعار العالمية.. صحيح أن تنفيذ الحكم مازال موضع منازعة قضائية إلي الآن، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بداهة هو: ماذا لو أصبح الحكم نهائيا وواجب النفاذ؟؟ وماذا لو استنفد كل سبل الطعن فيه وكل الوسائل القانونية لإيقاف تنفيذه؟؟ هل سوف تبادر مصر حينذاك إلي تنفيذ مثل ذلك الحكم باعتبار أن وسائل تنفيذه تقع بالكامل علي الأرض المصرية (الواقع أن تنفيذ مثل ذلك الحكم لا يحتاج من الناحية الفنية إلي أكثر من قفل محبس)؟؟.. للإجابة عن هذا التساؤل علينا أن نستعيد معا تلك الظروف التي أحاطت بإبرام عقد بيع الغاز إلي إسرائيل والتي كانت تبدو منذ البداية وكأنها نوع من التحايل والالتفاف علي أحكام الدستور المصري، حيث قامت الحكومة أولا بمنح امتياز بيع الغاز الطبيعي إلي شركة مصرية، ورغم أن قرار الحكومة في هذا المضمار كان قرارا غير دستوري لأنه يخالف نص المادة 123 من الدستور التي توجب الرجوع إلي مجلس الشعب لإصدار قانون ينظم القواعد والإجراءات الخاصة المتعلقة باستغلال موارد الثروة الطبيعية، رغم عدم دستورية القرار الحكومي، فقد كان من الممكن أن يمر مرور الكرام شأن العديد من القرارات الأخري غير الدستورية أيضا التي منح ـ بمقتضاها ـ عدد كبير من رجال الأعمال من ذوي الحظوة موارد طبيعية وأراض شاسعة حولتهم في غمضة عين من ذوي ثروات معقولة إلي ذوي ثروات مهولة تقدر بالمليارات، كان من الممكن أن يمر هذا القرار مرور الكرام مثل غيره لولا أن الشركة المصرية التي آل إليها هذا الامتياز (شركة غاز شرق المتوسط) قامت ببيع الغاز مقدما إلي إسرائيل بسعر الحاضر دون مراعاة لما يمكن أن تؤول إليه الأسعار في المستقبل، مما ترتب عليه غبن فادح لمصر (وهو غبن لم تتحمل الشركة المصدرة شيئا منه لأنها قبضت بالفعل من إسرائيل ثمنا لم تكن تحلم به،.. لا حظ أيها القاريء العزيز أن أي ثمن تحصل عليه الشركة المصرية المصدرة هو ثمن مربح بالنسبة لها، لأنها لا تملك غير امتياز منحته إياها سلطة لا تملك أصلا حق منحه!!)، هذا هو ما دفع مجموعة من المواطنين المصريين الوطنيين، علي رأسهم السفير السابق إبراهيم يسري إلي إقامة دعوي أمام القضاء الإداري يطالبون فيها بوقف قرار وزير البترول سامح فهمي بتصدير الغاز إلي إسرائيل عبر شركة غاز شرق المتوسط، تأسيسا علي أن منح الشركة المذكورة امتياز بيع الغاز قد تم بالمخالفة لأحكام الدستور، وهو ما استجابت إليه المحكمة بالفعل، ونعود الآن إلي السؤال المطروح: ماذا لو أصبح هذا الحكم نهائيا واجب النفاذ، هل ستعمد الحكومة حينئذ إلي تنفيذه؟.. الجواب فيما نتصور هو النفي، إذ إن هناك أكثر من سبب يجعل من التنفيذ أمرا مستحيلا أو شبه مستحيل، وأول تلك الأسباب هو أن الجهة التي سيناط بها التنفيذ (السلطة التنفيذية) هي المسئولة أصلا عن الكارثة!، وسواء كان الدافع إلي التفريط في الموارد المصرية هو سوء الحساب وسوء التقدير، أو كان الدافع هو وجود أيد معينة ذات تأثير في صنع القرار قد قبضت أو مازالت تقبض ثمن التفريط، سواء كان الدافع هو الفرض الأول أو الثاني فإن تنفيذ الحكم القضائي المذكور سوف يؤدي إلي فضح المتسببين عن الكارثة وربما مساءلتهم جنائيا و مصادرة ثرواتهم غير المشروعةٍ، فضلا عن ذلك فإن تنفيذ ذلك الحكم سوف يفتح علي السلطة التنفيذية أبوابا لا يمكن إيصادها عن مدي دستورية تلك الامتيازات الهائلة وقرارات تخصيص الموارد والأراضي التي منحت للعديد من المحظوظين من رجال الأعمال في ظل مناخ يخلو من الشفافية والمنافسة العادلة، وأخيرا وليس آخر فإن تنفيذ الحكم سالف الذكر سوف يعرِّض مصر للغضبين الإسرائيلي والأمريكي وهو غضب سوف تتمثل أولي مراحله علي الأرجح في تخفيض المعونات الأمريكية أو قطعها، أما آخر تلك المراحل، فإنها يمكن أن تصل إلي أي مدي تسمح به المتغيرات الدولية الراهنة (وهي في مجملها ليست في صالح أي جزء من أجزاء المنطقة العربية التي فقدت بالكامل تقريبا أي إمكانية للفعل الوطني المستقل)

ليست هناك تعليقات: